مجلة البعث الأسبوعية

أزمات تتلاحق تحت وطأة الحصار.. وعدّة المواجهة: قرارات ارتجالية وحلول مشتتة!

“البعث الأسبوعية” ــ ريم ربيع

لم يكن عماد، الأب الخمسيني لأربعة أولاد، يعتقد أن ما يسمعه من أخبار عن الحصار وقانون قيصر والعقوبات سيصل إلى داخل جدران بيته، فكان جل اهتماماته تأمين رغيف الخبز وأبسط ما يكون من غذاء وكساء لعائلته. يقول الموظف في مؤسسة حكومية: كنت أسمع عن العقوبات بأسماء شخصيات مسؤولة سورية، أو مؤسسات حكومية وخاصة، إلا أنني ظننت أنها ضمن حرب نفسية، أو حتى سياسية للضغط على الحكومة، قبل أن أدرك أنني وكل شخص سوري مستهدف بهذه العقوبات، بدءاً من لقمة الطعام وصولاً إلى سقف آوي إليه في نهاية كل يوم، فتلك العقوبات التي اعتقدتها شكلية، في البداية، جعلتني اليوم انتظر ثلاث ساعات لأحصل على ربطتيّ الخبز وبجودة سيئة، وحرمتني كل وسائل التدفئة من الوقود إلى الغاز إلى الكهرباء، وأجبرتني على الانتظار لساعات، في بعض الأحيان، حتى أحظى بوسيلة نقل تقلني إلى بيتي أو عملي، فضلاً عن الاستغناء عن أي شكل من أشكال الاستهلاك باستثناء الغذاء الذي أصبح اليوم بحدوده الدنيا.

 

لا مثيل له

عماد ليس الوحيد الذي تأثر بالحصار الاقتصادي بهذا الشكل، فباستثناء طبقة أثرياء الحرب المعتاشة على الحصار، يمكن القول أن كل فرد نال حصته بشكل أو بآخر، وهناك إجماع على أن الوضع الاقتصادي الحالي لم يسبق له مثيل حتى في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت العقوبات حينها تستهدف جهات محددة، وليست بهذه العمومية، كما أنها لم تكن تكتسب البعد الدولي الذي تستحوذ عليه اليوم، وكان تأثيرها أخف وطأة على معيشة المواطن؛ فاليوم لم تعد الأزمات تأتي فرادى، ورغم أنها في أغلبها مكررة وتعاد منذ سنوات إلا أن أحداً لم يجد لها حلاً بعد، وإن كان للحصار المفروض على سورية دور أساسي في أزمات المواطن اليومية إلا أن التخبط في إدارة الموارد المتاحة زاد الطين بلة، وزاد الشرخ بين المواطن والحكومة التي ما زالت بعيدة عن الشفافية والمصارحة الواقعية فيما تتخذ من قرارات.

 

فرصة

“حاصر حصارك”، البعض ينادي بهذه المقولة ليل نهار، وجعل منها شعاراً للتصريحات التي لا طائل منها دون أن يحرك ساكناً في هذا المجال، بل حوّل العقوبات إلى شماعة لكل ما يرتكب من أخطاء؛ وهنا يعتبر الأستاذ في كلية الاقتصاد، مصطفى الكفري، أنه يمكن تحويل الحصار المفروض علينا إلى فرصة للاعتماد على الذات، بعد وضع سلم واقعي لأولويات العمل، وفي مقدمتها تحسين الوضع المعيشي للمواطن، فالأزمة غير العادية تحتاج إلى قرارات غير عادية، لاسيما بعد استخدام العقوبات لحصار الدولة ومؤسساتها ومواطنيها، وتدمير النشاط الاقتصادي وعوامل الإنتاج، والحد من الحوافز لمتابعة النشاط الإنتاجي.

 

تأطير

هناك إجماع على مبدأ دعم الإنتاج المحلي – الصناعي والزراعي – ليكون المنقذ الوحيد مما نحن فيه؛ وتم تسجيل خطوات عديدة في هذا المجال إلا أنها لم ترتق لتكون ذات بنية واحدة متكاملة، فما تتخذه وزارة الصناعة أحياناً من قرارات قد يعارض الزراعة، والعكس صحيح!! وتشجيع التصدير رفع أسعار المنتجات محلياً، ومحاولات إدارة المخططات التنظيمية بشكل مختلف، وإقامة مدن صناعة متكاملة، عطل آلاف الصناعيين والحرفيين في مناطق عملهم السابق، وهناك الكثير من الأمثلة عن التناقض في القرارات رغم صوابية بعضها بشكل منفرد. وإزاء التوجه العام لوضع استراتيجيات بعيدة المدى، يوضح الخبير الاقتصادي د. هيثم عيسى أن ما يتخذ من حلول آنية في هذه المرحلة لا يجب أن يكون متناقضاً، فالأمر يتطلب إطار عمل شامل، وبرنامجاً متكاملاً لمنع التعارض بين الإجراءات التكتيكية.

كمثال على ذلك – يشير د. عيسى – إلى ما أطلقه وزير الزراعة من تصريحات بأن العام المقبل هو عام القمح، ما يدفع للتساؤل فيما إذا تم تخصيص أراضٍ ومياه لتطبيق هذا الشعار، لاسيما في ظل استخدام أغلب الآبار المرخصة وغير المرخصة في غير هدفها!! ومن جهة أخرى، هل تملك الحكومة البذار الكافية لزرع كل المساحات الممكن زراعتها؟ فالقمح اليوم هو فعلياً من أولويات المرحلة، إلى جانب القطن، وإعادة زراعة الشوندر السكري، فهل من خطط متكاملة حتى الآن لدعم هذه المحاصيل الثلاثة من مختلف الجوانب، وبعيداً عن الكلام النظري!؟

 

غير دقيقة

في حديثه عن السياسات المالية التي زادت انعكاسات الحصار سلبية، يشير أستاذ الاقتصاد، ووزير المالية الأسبق، د. خالد المهايني، إلى ارتفاع الموازنة العامة للدولة بين عامي 2010 و2020 من 754 مليار ليرة إلى 4000 مليار ليرة، فيما يتم مناقشة موازنة 2021 لتكون 8500 مليار ليرة، معتبراً أن السبب الأساس بهذا الارتفاع يتمثل في تدني سعر الصرف، إلا أن هناك أسباباً أخرى تتعلق بالسياسات النقدية، فمنذ 2012 أخذت الحكومة في إعداد الموازنة بمبدأ أساس الاستحقاق بدلاً من الأساس النقدي، خلافاً للقانون المالي الأساسي للدولة، الصادر بالمرسوم 54 عام 2006، والذي يقول بالأخذ بمبدأ أساس الاستحقاق مما انعكس سلباً على سعر الصرف، وأظهر عجزاً غير دقيق، وشهدت إيرادات الموازنة العامة للدولة انخفاضاً بسبب هذا الأمر. ومن جهة أخرى فإن آخر قطع حساب في الموازنة العامة كان عام 2013، لذلك لا توجد حالياً أرقام فعلية عن الإنفاق الفعلي والإيراد الفعلي.

 

تدخل نوعي.!

وفي حين يتركز التعويل اليوم على القطاع الخاص لتأمين متطلبات البلاد في ظل مقاطعة جميع المؤسسات الحكومية، نرى أنه أمام كل خطوة للأمام نعود عشر خطوات للوراء، ولم يصل القطاعان العام والخاص إلى تفاهم بعد، بل نجدهما يتبادلان الاتهامات والمسؤوليات في أغلب المواقف. وهنا، يرى عضو غرفة صناعة حمص، علي الأحمد، أن قطاع الأعمال ليس مدعوماً، وليس من المطلوب دعمه أساساً، بل يريد عدم استنزافه بالضرائب وجدولة المستحقات عليه فقط، مضيفاً أن “الحصار الداخلي” ليس أقل خطورة من الخارجي المطبق علينا، فالعقل النمطي لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل، إذ مازالت الحكومة تتأخر كثيراً في اتخاذ القرارات، معتبراً أن القطاع العام يجب أن يتدخل في المواقع الأساسية التي لا يمكن للخاص التدخل بها، وليس في منشآت ومعامل يوجد لها مماثل في القطاع الخاص.

 

كشف الخلل

وبالعودة إلى قطاع الزراعة، يرى الدكتور هيثم عيسى أن الحصار خنق القطاع الزراعي كما الصناعي وغيره، لكنه أيضاً كشف مواطن الخلل في القطاع الذي كانت مقوماته تتيح له الصمود في الحرب أكثر من ذلك، والخروج بأقل الخسائر، موضحاً أن المعالجة تتعلق بجزء منها فقط بالحصار لكن إهمال الأسباب الأخرى لن تعالج واقع الزراعة، ولإصلاح القطاع الزراعي يجب معرفة كل أسباب التدهور، ومعالجة أسباب تراجع الأراضي المزروعة بين عامي 2005 و2009، وكذلك عدد الآبار وأعداد الثروة الحيوانية والآلات الزراعية والأسمدة، فيما شكلت الحمضيات المحصول الوحيد الذي لطالما كانت مؤشراته إيجابية، إلا أنها لم تستثمر حتى الآن.

ويحيل عيسى التراجع الزراعي إلى قصور تطوير الصناعات التحويلية وضعف التمويل الزراعي، فالقروض قصيرة الأمد لا تساعد على بناء رأس مال لزيادة الإنتاج، وكذلك غياب أي شكل من أشكال التأمين على النشاط الزراعي الذي بات بحاجة مأسسة بشكل واضح وبأسرع ما يمكن