مجلة البعث الأسبوعية

“نجومنا محدثي النعمة”.. “مشخصاتية” لا فنانين!! منفصلون تماماً عن البلد والجمهور.. وسيكوباتيون يتباهون بالثروات الشخصية

“البعث الأسبوعية” ــ تمّام علي بركات

تُعول المجتمعات عموماً، في المراحل الصعبة التي تمر بها، على من يُطلق عليهم “النخبة” لديها، من سياسيين ومثقفين وكُتاب ومفكرين، وغيرهم، في رفع منسوب الوعي العام، والتجاوز الخلاق للمشكلات الاجتماعية والإنسانية التي تتعرض لها في حالات الخطر، كالحرب مثلاً، وفي الوقوف مع الشعب وبين الناس فيما يعانونه، وذلك من أجل إدراك طبيعة هذه المعاناة، والعمل بكل السبل على التخفيف منها، والمساعدة على جعلها أقل وطأة على أكتافهم وفي نفوسهم تمهيداً لرفعها.

وفي سورية، كما في العالم، وهذا ليس تعميماً بالمطلق، دخل الممثلون – والنجوم منهم بشكل خاص – نادي النخبة ذاك، وفي بلد حصلت فيه ثورة درامية بكل ما للكلمة من معنى، خلال فترة ذهبية اختبرتها الدراما وأهلها، من منتجين ومخرجين وممثلين وفنيين، وحدث أن ذهبت الأضواء – كما هي العادة – نحو “النجم”، الذي حمل هذه الصفة، لا من شركات الإنتاج، ولا من أهله ومعارفه، بل من الجمهور الذي أعطاه إياها، فهو – أي الجمهور – من كان، في وقت ليس بالبعيد، “صانع النجوم”، لا كما هو الحال اليوم، حيث “النجومية” صناعة بما تعني الكلمة من معنى، يتم الاشتغال على مفرداتها بعناية بالغة، وببذخ مهول؛ ولطالما كان أهل الفن لدينا من الناس، وفيهم – كما يُقال – “لهم ما لهم وعليهم ما عليهم”، يعرفونهم في الحياة العامة، وبينهم “سلام وكلام”، جيراناً، وأهلاً، ومحبين، يصادفونهم في السوق، وفي المقاهي، وفي حافلات السفر، وعلى كوات أفران الخبز، وعلى جبهات القتال مع الجنود، ويدعونهم لحفلاتهم وأفراحهم، ولا يتأخرون عن المشاركة في تقديم الواجب في حالات المرض والموت، وغيرها، ولديهم همومهم المشتركة معهم.. لذا أحبهم الجمهور، ولا زال يحبهم حتى اليوم؛ وحتى من غادر منهم إلى السماء، ومن لم يكن كذلك منهم – أي من كان ميسوراً، ولديه حياته التي اعتاد أن يحياها، من سهر وبذخ وغيره – كان يخجل أن يكون في أفضل حال، بينما أهله وناسه وصُناع نجوميته غير ذلك. أحد الفنانين توقف عن العمل نهائياً، ولدى سؤاله عن السبب، أجاب: “خجلت من الناس أن يكونوا في همّ، وحزن، وغمّ، وفقر، ومصائب لا تُحصى، بينما أنا اشتغل وأكسب، وأجري المقابلات وأتحدث إلى الكاميرات، وكأن لا شيء يحصل مع أهلي وأخوتي، وهناك الكثير منهم إما فقد عمله، أو مكانه، أو أهله وناسه، وحتى حياته”.

من الضروري – هنا – أن ندرك أن الرواد السوريين، الذين صنعوا نهضة الدراما المحلية الحقيقية، وكانوا يعملون على وضع حجر الأساس المتين لمهنة سوف تصبح من الصناعات الثقيلة فيما بعد – وهنا مكمن إبداعهم – عدا عن اشتغالهم في أعمال درامية (مسرحية – سينمائية – تلفزيونية) حملت هموم الشارع الذي يعرفونه جيداً – لأنهم منه – إنما كان عملهم الشاق هذا كان بأجور وظروف من المستحيل أن يقبل بها أحد نجومنا الطارئين اليوم!

هذا الحال تغير! وهنا، لا نتحدث بالعموم، لكننا نخص بالحديث بعض الممثلين “النجوم”، أولئك الذين قطعوا معظم وسائل التواصل الطبيعي بين “أهلهم وناسهم” – كما يدعون في كل مناسبة – بعد أن جاءت الميديا الرقمية بمختلف وسائطها، وصارت وسيلتهم المفضلة للتواصل “على طريقتهم” مع الجمهور، ولكن بانفصال تام عنه، وعن همومه ومشاكله، وحتى دون اكتراث بمشاعره، إلا لفظياً، وفي بعض الحالات التي يضطرون فيها لاستدعاء أدواتهم في التمثيل خارج أوقات العمل؛ فليس من المعقول، بل ومن المعيب أخلاقياً، أن يعاني الناس من تأمين أبسط المقومات الأساسية للحياة اليومية، كالخبز مثلاً، ثم يظهر النجم الفلاني، أو النجمة العلتانية، في مقطع مصور على إحدى تلك الوسائل، أو حتى على الشاشة الفضية في برنامج من البرامج “العجيبة الغريبة”، وهم يتفننون في إظهار الرفاهية التي يرفلون بها: موائد عامرة، بذخ لا يصدق على الكماليات، أزياء من أغلى الماركات، سيارات وبيوت فخمة، صور وفيديوهات عن قضاء أوقات ممتعة في رحلات سياحية للاستجمام في أغلى المقاصد السياحية العالمية، ومنها ما هو في دولة عدوة، توسعية، تحتل جزءاً من أرضنا اليوم!! إنهم لا يخجلون أن يُظهروا ذلك بلا مبرر، حتى وهم يعلمون أن ثمة أناساً تموت من الجوع – حرفياً – في بلادهم.. بعضهم حجته “وأما بنعمة ربك”، وهذا يصح في حال معرفتهم معنى “النعمة”، ومتى “يحدثون بها”، فهي تعني هنا العلم، فالعلم ما يُحدّث به، لا الاستعراض لما سبق، وإلا لكانت “.. فصور وشارك”، وبعضهم للتباهي أو”المجاكرة”، وغيرهم إشباعاً لعقد نقص عديدة لا تخفى على من يعلم أن الأشياء العميقة تظهر على السطح!!

إلا أن حالة – سيكوباتية في مضمونها – سادت بين هؤلاء “الستارزات” اليوم، إذ لا يكاد لقاء يمرّ معهم، أو حديث يجري بينهم، إلا ويكون التباهي بالثروات التي صاروا يمتلكونها بعض أطراف هذا الحديث، ولا حاجة للبحث عن ذلك، فمواقع التواصل الاجتماعي التي يتوافرون عليها على مدار الساعة، ليتفاعلوا مع “الفانزات” المفترضين، تكتظ بما يقومون به في الحياة العامة أو الخاصة، ومنها استعراضاتهم المخجلة والمعيبة لحياة البذخ التي يحييون تفاصيلها بلذّة سادية لا يمكن فهمها، خصوصاً عند من لا تفوتهم فائتة للحديث عن سلوكياتهم الإنسانية، تلك التي لا يراها أحد، ولا يسمع بها إلا كل طويل عمر؛ ونحن أهل “مكة” وأدرى بشعابها، ونعلم ما نقول!! وليتهم يبقون على ما هم فيه من فصام ووهم صار لهما سعر عال اليوم، فهناك منهم من حشر أنفه فيما يحصل في بلاده، وأدلى بدلوه – الجوهري حقيقة!؟ – في هذا الشأن، ولعب دوراً قذراً في التحريض على الأرض التي ولد فيها، وتربى بين ناسها، ودرس في مدارسها وجامعاتها ومعاهدها، ومنها المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث درس وتعلم “أصول المهنة” مجاناً!! – وبالمناسبة، الدراسات المتعلقة بالفنون هي الأعلى سعراً في الجامعات المختلفة التي تُدرسها في العالم، القريبة منها والبعيدة .. ووصل الانحطاط الأخلاقي والإنساني، بالبعض منهم، درجة دفعته للشماتة والتهليل لقانون “قيصر” مثلاً، والذي يعني التجويع حرفياً للناس الذين يدعي أنه يطالب بحقوقهم ويتباكى عليهم؛ إلا أن الكلام “بيضلو كلام”، كما تقول السيدة فيروز.

فلندع الناحية السياسية جانباً، فالأيام بينت وكشفت مدى جهل هؤلاء، وكيف صار العديد منهم ليس أكثر من تاجر “عواطف ومواقف” – أليس عنوانا مناسبا لعمل درامي يجمعهم؟ -ولكن ماذا بشأن الناحية الإنسانية التي يتشدقون بها، وأوصالهم تتقطع من البرد؟! ربما وهم يهذرون بما لا يعرفون أمام الكاميرات، معبرين عن عميق حزنهم لمصاب أبناء “وطنهم؟!”: بكاء ودموع ونواح وأمنيات وبابا نويل.. إلخ. حسناً، دعونا من الدموع التي تتقنون بذرفها، متى شئتم – بحكم الخبرة – لكن ماذا فعلتم لمن تتباكون عليهم في لحظة – بغض النظر عن حقيقة مشاعركم – لتبثون مقاطع مباشرة عن لحظات السعادة العارمة التي تتمايلون تحت ثقلها من الحزن – ربما!! – في لحظات أخرى؟ والسؤال الذي لا بد من طرحه عليكم بعد أن تكفكفوا دموعكم بمنديل من فيرزاتشي، أو تخففوا من حدة ألمكم في بارات النجوم السبعة، و”نص”، خصوصاً لجماعة “أما بنعمة ربك فحدث”، واستعراضاتهم السخيفة لأرصدتهم البنكية، وحياة الترف التي يحيونها في الداخل والخارج: ألم يخبرهم أحد أن الغالبية الساحقة من السوريين لم تغادر البلاد، وأن 80% منهم يعاني ما يعانيه من قسوة الحياة التي عاثت بها الحرب خراباً، وهناك ملايين المهجرين الذين يعيشون في ظروف أقل ما توصف بـ “اللاإنسانية”.. هؤلاء، ماذا فعلتم لأجلهم طالما أنكم لا تفوتون فرصة للتضامن الصوتي معهم؟ الناس الذين ما زال أهلكم والعديد من أقربائكم وأحبابكم يعيشون بسلام بينهم، هل حاولتم المساهمة بأي مبادرة ضاغطة لرفع العقوبات الاقتصادية الظالمة عنهم باعتباركم “نجوماً” ولكم تأثيركم؟ هذا أقل ما يمكن لرد، ولو بعض “المعروف” الكبير الذي صنعوه لكم؛ هناك عتب ولوم – بل و”يا حيف” – على بعض “نجومنا” المنفصلين عن الواقع تماماً فيما يقدمون عليه من تصرفات مخجلة حقاً، وتدل على بواطنهم، وما أخفى!! إما أنهم كذلك، أو أن حالة فصام يحيون بها، تجعل من “يقولون ما لا يفعلون” تنطبق عليهم حرفياً؛ ففي اللقاءات التلفزيونية، وعندما يُساق بعضهم للحديث عن الوطن، “تنبعج” صرة مشاعرهم، وتنزف غزيرة عواطفهم على ما يحدث للناس، لكننا لم نعرف بالعموم إن قمتم بتقديم أي مساعدة لهم!

في الحرب العالمية الثانية، ذهب الكثير من كبار نجوم الفن في أوروبا وأمريكا لفتح بيوتهم الخاصة للذين فقدوا بيوتهم، وواظبت مطاعم عديدة على تقديم وجبات يومية على نفقة أولئك النجوم، وتخلى العديد منهم عن أجره متبرعاً به لصالح الفقراء الأكثر تضرراً في الحرب، وهناك من وهب كل ما يملك للناس، لأنهم رأسماله الحقيقي، وهو يدرك ذلك جيداً، ويعرف ماذا يعني أن يخسر رأسماله الحقيقي.. أقله، لم يخرجوا على الشاشات يستعرضون ما تستعرضون من مهازل منوعة، دون أن رادع أخلاقي أو إنساني أمام الأهوال التي يقاسيها من جعلوه حيث هو.

منذ زمن ليس بالبعيد، كان الممثل يسمى “مشخصاتياً”، وكانت شهادته غير مقبولة في المحاكم، لكن هذا انتهى، و”صرتم وتصورتم”، وصارت لكم مكانة بين الناس، وفي مختلف أنحاء العالم، لكن البعض من نجومنا “محدثي النعمة” يؤكد – بما يفعله، وبما لا يدع مجالاً للشك – أنه ليس فناناً، بل “مشخصاتياً”، وهذا – قولاً واحداً – لا يجب أن يؤخذ بشهادته، لا في المحاكم، ولا حتى على وثيقة عقد زواج!!