مجلة البعث الأسبوعية

الليل والنهار في متحف حلب الوطني

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

أدرجت اليونسكو مدينة حلب القديمة ضمن الآثار الإنسانية العالمية، لأن هذه المدينة بحدّ ذاتها متحف إنساني عريق، وأثر حضاري يتضمن العديد من المعالم والمواقع، ومنها متحف حلب الوطني الذي يضاهي بكنوزه الأثرية متاحف العالم العربية والعالمية، بما يكتنزه من معلومات وآثار وقطع نادرة، تمثّل الخط البياني للطبقات “الأركيولوجية” المتعاقبة، وما تعكسه من أساليب وأنماط الحياة السالفة.. معروضات تصافحك بدءاً من اللوحات الإعلانية على سور المتحف الخارجي، وصولاً إلى ساحته الداخلية المفعمة بتيجان الأعمدة المزخرفة وأدوات حفظ المياه والتماثيل والقطع الأثرية الأخرى بألوانها المختلفة السوداء البازلتية والبيضاء الصخرية والجصية والبنّيّة وهي تستعيد الحياة مع عملية الترميم المستجدة.

تشعر بأن هذه القطع تتنفس قيامتها الجديدة، تنتظرك لتخبرك بأنين مصحوب بالابتسامة عن معاناتها مع قذائف وصواريخ الإرهاب، وكيف أصابتها نيرانهم الحاقدة بألم سيظل جرحاً عميقاً في أرواحها، متسائلة: ما ذنبي، وأنا التي شهدتُ على أزمنة من حياة الإنسان على هذه الأرض؟ أنا متشبثة بوطني سورية، وسعيدة لأنني في سورية، في هذا المتحف الحلبي الذي يعتني بي، ويرمم آلامي وجراحي المادية، لكن جراح روحي ستبقى ندبة غائرة، ربما تشفى مع الوقت، ومع عودة الزوار والسيّاح إلى رؤيتي لأتبادل معهم الحكايات التي لا تنتهي عن تاريخي وعن حياتهم.

ثم، يزأر الأسد الواقف أمام باب المتحف الرئيسي، زَأْرَةً مرحّبة محيية، ويحدثنا: أحرس هذا المبنى بطمأنينة، وأحتفظ بظلال الزائرين لأزرعها في هذه التربة، وحالما يأتي الليل، تسقيها أشعة القمر، وتتبرعم مع كل أشعة شمس ومطر، فتنبت الحكايا وروداً وثماراً على الشجر.

ويتدخل التمثال الثاني المشكل من رأس الثور قائلاً: أحبّ واجهة المتحف لأنها نسخة عن القصر الملكي في تل حلف رأس العين الآرامية، أي منذ القرن التاسع قبل الميلاد، ولا يفوتني أن أخبركم بأن تصميم مبنى هذا المتحف هو من إنجاز المهندسَيْن المعماريين فيجينسلاف ريختر، وزدرافكو بريغوفا.

بينما يرفع التمثال الثالث رأسه الأشبه بأبي الهول مضيفاً: وفكرة حضورنا كتماثيل لهذه الواجهة جاءت من قوالب جصّيّة للفنان وفا الدجاني، وتشكلتُ برأس امرأة كأنني “أمّ الهول”، وتكونتُ مع تمثال الثور والأسد والتماثيل الأخرى المرتفعة حوالي 6 أمتار من الإسمنت الأسود المخلوط بالرمل والجص الأسود، بينما تعود التماثيل ذات الهيئة البشرية إلى الرب حدد، والربة عشتار.

هنا، تتنفس عشتار الأنفاس المعطرة بالأزمنة، وتتدخل قائلة: واقفون هنا، لكن قلوبنا تتحرك مع الناس في الشوارع والحدائق، ومشاهد حياتهم اليومية، كما نتابع بشغف الزوار الذين يدخلون المتحف بأقصىى دهشةٍ، مستغربين من الذاكرة العتيقة لحلب وما حولها، لسورية وما فيها من حضارة إبداعية.

أتلفّت كما يتلفّت السائح الشغوف، لألمس الرنين والأناشيد والحكايات والأساطير والخرافات، فأطارد هذه الموسيقى الغامضة مثل طفلة تطارد الفراشات، وأجلس على الحافة الحجرية لإحدى الشجرات، أتأمل الماضي وهو يمشي بهدوء صافٍ شفاف، وأرى الحاضر جالساً قبالتي على إحدى الحواف الحجرية للشجرة المقابلة.

الحاضر حزين، يبكي بصمت، ونشيجه الهائل يجعل المستقبلَ باسماً يقترب منا، حينها، لا أعلم كيف وقف أمامنا طيْفُ المتنبي قائلاً: “وقفتَ وما في الموت شكٌّ لواقفٍ، كأنك في جفن الردى وهو نائمُ / تمرّ بك الأبطالُ كَلْمى هزيمةً، ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسمُ”.

القطع الأثرية تردد معنا شعر المتنبي، وبلا شك، سيسمعها كلُّ مَنْ يصغي لأعماقه وأعماقها، وسيستزيد من المتحف الذي كان قصراً عام 1931، وصار كما هو الآن، منذ عام 1966، موزعاً إلى باحتين، داخلية وخارجية، وحديقة وطابقين وأقسام وأجنحة وقاعات تفيض خزائنها بالمكنون الذي لن تراه العيون في أي مكان آخر من الكون.

ولا بد للزائر أن يلاحظ في الأقسام الخمسة تلك الآثار الحضارية الإنسانية الحلبية والسورية، بقطعها النادرة، ورواياتها التاريخية، التي تحكي لك عن رأس شمرا، إيبلا، مملكة ماري، الحسكة، الخابور، الرقة، حماة، تل أحمر، تل حلب، تل حلف، وعن تلك الحِقَب بعناوينها الخمسة: قسم آثار ما قبل التاريخ ــ ما قبل اكتشاف الكتابة، ويمتد بين مليون و300 ألف سنة قبل الميلاد، وحتى 3500 قبل الميلاد، ويضمها الطابق الأرضي، وقسم متحف الآثار السورية القديمة المؤلف من 3 أجنحة تضم عدة قاعات مقسمة تبعاً لمواقع المكتشفات وأزمنتها، ومتحف آثار الفترة الكلاسيكية، ومتحف الفن العربي الإسلامي، ومتحف الفن الحديث.

ومن أبرز مقتنيات المتحف، المقتربة من 30 ألف قطعة، هيكل عظمي لطفل نياندرتال عثر عليه، عام 1993، في مغارة الديدرية بحلب، ويقدر عمره بـ 40 ألف إلى 100 ألف سنة، وأقدم دمية حجرية مكتشفة في المنطقة، وهي دمية الربة الأم المريبطية، وقوالب الكيك والخبز، والدنّ اليوناني، والنقود، والمسكوكات، وصحن فخاري مزين بأشكال نباتية وهندسية، وطاسة ذهبية من موقع أوغاريت، وثور برأس إنسان من الذهب والزمرد يعود لحضارة إيبلا، وأوانٍ خزفية وزجاجية ومعدنية وفخارية، ولوحة جدارية جصية للبيت الطقسي والتي تعتبر من أوائل اللوحات الجدارية في العالم، وسُرجٌ فخارية وبرونزية، ومنحوتات حجرية من منبج، وقطع زجاجية، ومخطوطات، وكتابات، وقبر إسلامي، وأقدم مأوى لإنسان متحضر (8500 قبل الميلاد)، وسجاد نادر، ولوحة فنية بالخط العربي كتبت عليها آية من القرآن الكريم: “ادخلوها بسلام آمنين”، إضافة لحجر بازلتي يمثل رجلين مجنحين يدوران حول الشمس والقمر وكأنهما الليل والنهار، وتمثال أمبوشاد الكاتب الرئيسي في مملكة ماري، ونصُب الرب ملقارت الفينيقي، ولوحة فسيفسائية “صرين”، المتماوجة بمشاهد ميلودرامية متداخلة بين الآلهات والراقصات والصيد، إضافة لأعمال فنانين وتماثيل لفنانين سوريين، منهم رولان خوري، فهدي محمد، ألفريد بخاش، لؤي كيالي، سامي برهان، فاتح المدرس.

والملفت أن الثيمة الجمالية هي الثيمة المشتركة بين الأعمال الفنية وآثارها وتاريخيتها المتراوحة بين نقوش وحفريات ورسوم وزركشة وخطوط كتابية، يزيدها تألقاً البُعدان النافر والغائر، وكأنهما البُعد الثالث للّحظة المرسومة، أو المحفورة، أو المزركشة على المجسمات والتماثيل والآثار المعمارية والحياتية، ومنها آثار القرى الزراعية التي تذكّرنا برسالة الإله بعل الثقافية الحضارية منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، وهي تصدح بين جدران متحف حلب: “حطم سيفك، وتناول معولك، واتبعني، لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض.. أنت سوري، وسورية مركز الأرض”.