اقتصادصحيفة البعث

السياسة الاقتصادية الخاطئة هي المؤسس الفعلي للسوق السوداء

لم تكن السوق السوداء التي تنامت خلال السنوات الأخيرة، والمشهودة بكثرة هذه الأيام للعديد من المواد، موجودة بهذه الكثافة خلال العقود الماضية، والسياسة الاقتصادية خلال العقود الأخيرة هي المؤسس الفعلي لهذه السوق، وتكرس وجودها تتابعياً من خلال تعدد وتنوع الحالات المتتالية لتنظيم توزيع مازوت التدفئة، والمازوت الزراعي والصناعي، والتي نجم عنها قرار إيصال المادة بكميات محددة إلى الجميع، لكن واقع الحال أظهر وصول المادة بكميات إلى القسم الأكبر من مستحقيها وليس للجميع، وفق التنظيم المعتمد، وهذا الاستحقاق لا يتوافق مع الحاجة والاستخدام الفعليين عند بعضهم، فبعض هؤلاء المستحقين بحاجة فعلياً لأكثر مما هو مخصص لهم من المادة، وبعضهم غير محتاجين لكامل المستحق لهم، بل إن بعضهم لا يستخدمون المادة قطعاً، ما يوفر فائضاً لديهم، فعلى سبيل المثال بعض الأسر أو الصناعيين أو المزارعين أو أصحاب وسائط النقل يستهلكون كامل المازوت المخصص لهم ويحتاجون المزيد، فيعمد تجار السوق السوداء لتأمين هذه الحاجة لهم من الفائض المتوفر من حصص المستحقين الأقل استهلاكاً، أو المعدوم استهلاكهم من المادة نفسها، وبعض الأسر تحتاج كمية أكبر من الكمية المخصصة للتدفئة، وبعضها تحتاج كمية أقل، وبعضها لا تستخدم الكمية قطعاً، فتتدفأ على الحطب أو الكهرباء أو الغاز، وهكذا حال الصناعيين والمزارعين، وأصحاب وسائط النقل، هذا عدا عن الفائض المتوفر لدى أصحاب محطات الوقود نتيجة الغش في نقص الكيل المعتمد عند أغلبهم، أو نتيجة الغش في الكميات المستلمة والموزعة عبر الصهاريج الناقلة للمادة من المؤسسة العامة للمحروقات، ما يتيح الفرصة أمام تجار السوق السوداء لشراء الفائض عند هؤلاء وبيعه للمحتاجين الآخرين بأسعار أعلى من قيمة الشراء الفعلية، وتململ المحتاجين، وغلاء هذه الأسعار يتناوب صعوداً وهبوطاً بين زمان ومكان، ويزداد كثيراً حال تهريب المادة خارج القطر، والرقابة الرسمية قاصرة جداً في المتابعة.

إن وجود عدة أسعار للمازوت (135 ل. س للمخابز – 180 ل. س للتدفئة والنقل والزراعة – 650  ل. س للصناعيين) يؤسس لوجود سوق سوداء شبه علنية، وبأسعار تفوق أسعار شرائها الفعلية، وخاصة حال نقص الكميات المخصصة والموزعة فعلاً، وقد شكت بعض الأسر وبعض المزارعين والصناعيين من ذلك بين حين وآخر، فقبل أيام قال لي أحد المزارعين إنه لم يحصل على المازوت اللازم لتشغيل معداته الزراعية، فذهب للشراء من محطتي وقود، وكل منهما طلبت منه علناً 800 ل. س لكل ليتر بلا حرج وبلا سرية، علماً أنه لا يوجد في المحطات مازوت مخصص للبيع بالسعر الحر.

ما ينطبق على المازوت ينطبق على البنزين والغاز والسكر والرز والخبز، بخصوص الاستحقاق المقرر والحاجة الفعلية والفائض المتحقق، مع فارق يتجلى بوجود بنزين حر وسكر حر ورز حر وخبز حر، لكن الأزمة ازدادت حدة مؤخراً، مع وجود سوق سوداء لمادة الخبز، المجمع عليها أنها خط أحمر، فأغلب المواطنين يشكون منذ سنوات من نقص وزن ربطة الخبز وغلاء سعرها عن السعر الرسمي، عدا عن سوء النوعية لدى عدد غير قليل من المخابز، وبعد تشريع استخدام البطاقة الذكية وزيادة السعر الرسمي مؤخراً، شكا أكثر من مواطن من شراء ربطة الخبز حتى 1500 ل.س، بدلاً من السعر الرسمي المحدد لدى الموزع بـ 125 ل. س، وقبل أشهر وأمام عيني اشترى مواطن من أحد المعتمدين ربطتي خبز بـ 300 ل.س وهما بوزن ربطة واحدة بدلاً من السعر الرسمي 65 ل.س الذي كان محدداً يومئذ، قبل زيادة سعر الخبز مؤخراً، وحينها شكا الموزع بأن صاحب المخبز يسلّمه الوزن ناقصاً، ويأخذ منه قيمة الربطة 115 ل. س من باب المخبز بدلاً من 50 ل.س السعر الرسمي المحدد يومئذ.

المشكلة تتجلى بعجز الرقابة الرسمية، المترافق مع قصورها، تحت حجة أنها لا تستطيع أن تمنع رب أسرة من أن يبيع مخصصاته من محروقات التدفئة بسعر أعلى لصاحب محطة الوقود أو لمحتاج لها أو لتاجر سوق سوداء، ولا أن تلاحق بائعي الرصيف الذين يبيعون ربطة الخبز بأضعاف سعرها، لا بل إن الكثير من المسؤولين شرّعوا شفهياً ولسنوات أحقية أصحاب المخابز الخاصة بنقص الوزن ورفع السعر إلى حد ما، تحت حجة أن السعر الرسمي يغبن حقهم، ولم يتخذوا أي إجراء للخلاص رسمياً من هذا الغبن، والطامة الكبرى أن هؤلاء المسؤولين يتجاهلون عجزهم وقصورهم في ممارسة الرقابة الرسمية على المخالفات التي يرونها أمام أعينهم، ويلقون الكرة في مرمى المستهلك الذي يطلبون منه ممارسة الرقابة الشعبية، ويتجاهلون المضاعفات المادية والمعنوية لهذه الرقابة المنشودة حال حصولها، والتي ستكون ثمرتها خسارة الشاكي، وقتاً ومالاً وعناء، بأضعاف ما شكا منه، وستتحول الرقابة الشعبية إلى نزاعات شعبية.

خلاصة الخلاصة: الحاجة ماسة لمراجعة السياسة الاقتصادية من خلال تحرير أسعار المواد المدعومة وبيعها بسعر الكلفة، بما يتوازى مع سعرها في الدول المجاورة، وتحويل الدعم المخصص من عيني إلى نقدي يعطى للمستحقين المحتاجين، وفقاً لشرائح وبنسب متفاوتة بين شريحة وأخرى، وتفعيل الرقابة الرسمية الجادة، فقد خسرت الخزينة العامة الكثير الكثير جراء استمرار الدعم العيني، وحقق البعض ثراء فاحشاً نتيجة ذلك، فاعتبروا يا أولي الأبصار، فقد بلغ السيل الزبى.

عبد اللطيف عباس شعبان- عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية