دراسات

التخطيط لبناء صين جديدة

ريا خوري
ينظرُ الغرب الأوروبي إلى أن نهوض الصين هو بمثابة التاريخ الذي يعيد نفسه، حيث يرى هؤلاء أن الصين تبدو وكأنها حديثة العهد بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وللغرب الأوروبي، لكن على ما يبدو أن الغرب الأوروبي والأمريكي يفهمان الصين بشكل خاطئ عندما يتصوّران أن وصولها كدولة قائدة للعالم، أو دولة عظمى بديلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية سيكون تعبيراً عن نهاية ذلك الغرب.

صحيح أن الصين دولة ناشئة، لكن الواقع يؤكد أنها تنمو بشكل متسارع وهي الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو عودة إلى وضعها الطبيعي كدولة متوسطة الدخل.

مؤخراً عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمراً صدر عنه وثيقة أُطلق عليها اسم “خطة التنمية في أفق سنة 2035″، التي تتضمن مدلول “الرخاء للجميع” كشعار جديد لجمهورية الصين الشعبية خلال العشرين عاماً القادمة، وهو الشعار نفسه الذي ترفعه الدول الرأسمالية الليبرالية. وهذه الوثيقة تتضمن خططاً ومشاريع تطوير وتحديث، وهي مرتبطة بما أطلق عليه الرئيس الصيني شي جين بينغ بـ”الديمقراطية الاشتراكية” المتمثلة بالأساس بخطط التنمية. لقد تمّت صياغة الوثيقة بعناية بعد أن جمع أكثر من خمسمائة مقترح من المقترحات التي تمّ تقديمها منذ شهر نيسان الماضي، وهذا ما سمح بالتعمّق في المفاهيم والأفكار وتدقيقها لتصبح مقترحات منطقية وعملية تُبنى على أساسها سياسات الصين الجديدة، كما تتضمن خمسة أسس ضرورية تقوم عليها المشاريع والخطط التنموية الجديدة، وهي كما شرحها بالتفصيل الرئيس الصيني بالعلاقات الخمس المتمثلة في الروابط والعلاقات بين البناء على الإنجازات الماضية والسعي إلى الابتكارات، وبين الحكومة والسوق وبين الانفتاح الواسع والاعتماد على الذات، وبين التنمية والأمن وهما قضيتان متلازمتان، وبين الإستراتيجية والأساليب باعتبارها الأسس المهمّة والمبادئ التي تمّ الالتزام بها في صياغة الآراء والمقترحات. ليس هذا فقط بل نلاحظ باهتمام في استلهام بعض مفردات النظام الرأسمالي الليبرالي، مثل الرخاء للجميع والإصلاح الهيكلي، والتنمية المستدامة، أن الصين تعمل بكل ما تملك من جهود لتغيير نمطها، من الاشتراكية المطلقة إلى مزيد من التحرّر والانفتاح الاقتصادي، خاصة وأنها تتقدّم في مستوى المبادلات الخارجية منذ سنوات عديدة، وهو ما أهّلها لتجلس على عرش التجارة العالمية.

هذه التوجّهات لا تنفي التوجّه نحو الداخل في عملية التنمية، بمعنى العمل بشكل جاد على استعادة استثمار الأرباح في عمليات تنمية فعلية وحقيقية داخل البلاد يستفيد منها الشعب الصيني، وهو ما تساهم به الدولة في مواقفها ومجابهتها للفقر وخاصة في المناطق القروية والريفية. وقد شدّد الرئيس الصيني على أن تأسيس نمط إنمائي جديد يجب أن يرتكز على السوق المحلية والسوق الخارجية وتعزيز بعضهما البعض، مع ضرورة أن يتخذ من السوق المحلية الدعم الكبير والأساسي له. وهذا يعتبر خياراً استراتيجياً واضحاً لرفع مستوى التنمية الاقتصادية لجمهورية الصين الشعبية، فضلاً عن صياغة مزايا جديدة في التعاون التجاري والاقتصادي، والمنافسة الاقتصادية والتجارية على الصعيد العالمي.

من هنا عمل شي جين بينغ على بذل الكثير من الجهود لتجذير تنمية الصين من داخلها، والاعتماد بشكل كبير على السوق المحلية أكثر من السابق لتحقيق النمو الاقتصادي. وهنا كان مطلب الرئيس الصيني مهماً في التمسّك بتوسيع المتطلبات المحلية كأساس استراتيجي، وتعزيز دورة إيجابية للتجارة والاقتصاد الوطنيين، وإلى إرساء نظام إمدادات أكثر توافقاً مع الطلب المحلي. ما يعني أن جمهورية الصين الشعبية تهدف من خلال الخطة التنموية إلى اللحاق بمستوى الدول المتطوّرة من خلال الدخل الفردي الخام ليكون توزيع الثروة في الدولة الاشتراكية أكثر عدلاً ومساواة.

من هنا جاءت الحاجة الضرورية إلى إعادة النظر في المنهج التنموي من أجل تعزيز النمو الاقتصادي في سوق يبلغ تعداد سكانه ملياراً وأربعمائة مليون نسمة، وهو ما تراهن عليه الصين لدفع تطورها ونموها الاقتصادي على قواعد وأسس صحيحة بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل بين أبناء الشعب الصيني، الذين وعدتهم الاشتراكية الديمقراطية ووعدهم الزعيم ماو تسي تونغ بأنهم سيصلون إلى “الشطر السماوي” وسيتركون “الشطر الجهنمي”.