تحقيقاتصحيفة البعث

لماذا البطء؟ الفجوة تتسع بين مخرجات التعليم وسوق العمل ولا حلول في الأفق القريب!

خيبة أمل كبيرة يعيشها الشباب جرّاء الوضع الحالي.. إهمال واضح لتنمية قدراتهم وتعزيز دورهم في تنمية المجتمع، حيث لم ينلهم خلال العقود الماضية غير الوعود، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة التي تراكمت فيها مشكلاتهم وتلاشت أحلامهم وانكمشت فرص العمل أمامهم، وتبدو بطالة الخريجين في الجامعة أشدّ إيلاماً من غيرها، وهي ناتجة عن الهوة العميقة بين مدخلات التعليم ومخرجاته، وما زاد الطين بلّه هو الفجوة الكبيرة التي تتّسع بين مهارات الخريجين وحاجات ومتطلبات سوق العمل، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن ردم هذه الفجوة وتغيير هذا الوضع بهدف تعزيز قدرات الشباب، وما الذي يمنع وزارة التعليم العالي من العمل على الجودة الشاملة أكاديمياً وربط سوق العلم بالعمل؟.

الأمور في ضمور!

هذه القضية /المشكلة/ من المفروض أن يُثار حولها نقاش على مستوى مؤتمر وطني بهدف الخروج بقرارات تُلزم أصحاب الشأن باتخاذ إجراءات عملية سريعة للوصول إلى أنجع الحلول، لكن “الأمور في ضمور”، فمنذ عقود ونحن نسمع ونقرأ ما تروّج له وزارة التعليم العالي بأعلى صوتها بأن التعليم هو العامل الأساسي الذي يؤدي إلى التطور والتنمية والتقدّم، وهو أساس نجاح أية عملية تنموية وطنية، وعنصر محدّد وركن أساسي من أركانها، وخاصة لجهة تنمية وتطوير الموارد البشرية، التي تعدّ المحدّد الأساسي لتحقيق ونجاح التنمية الوطنية المستدامة، لكن ماذا تحقق من هذا الكلام؟!..

للأسف لم يتحقّق أي شيء من الرؤية الإستراتيجية لوزارة التعليم العالي، التي وضعتها منذ أكثر من 15 عاماً، حيث لم نشهد تطوراً نوعياً للمناهج والخطط الدرسية ولا حتى في البرامج التعليمية، ولا حتى أي تطور مقبول فيما يتعلّق بتطوير القدرات النوعية للجامعات وأعضاء الهيئة التعليمية واعتماد نظام لتقويم الأداء ومعايير الجودة. حتى القرارات التي صدرت مؤخراً لدعم البحث العلمي لم تكن مجدية ولا يمكن أن تصنع بحثاً علمياً، نظراً لغياب البنى التحتية والبيئة التمكينية ومستلزمات العملية التعليمية والبحثية، يعني لا أمل في رفع مستوى إنتاجية منظومة البحث العلمي وربطها باحتياجات التنمية؟.

كل ما تحقّق هو زيادة فرص الالتحاق بالتعليم العالي بشقيه العام والخاص والموازي والمفتوح، ولكن بعيداً عن معايير الجدارة، وبذلك تحوّلت الجامعات والمعاهد إلى مخازن لتكديس العاطلين عن العمل!.

إشكالية المواءمة؟

من خلال ما سبق من أداء كلاسيكي لإدارة المنظومة التعليمية استمرت إشكالية المواءمة بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل بقطاعيه العام والخاص، وهذا ما أكده العديد من الأساتذة الذين التقيناهم، وأرجعوا ذلك إلى عوامل كثيرة من أهمها “خلو المحصلات التعليمية الفعلية للخريجين من المهارات الحديثة المطلوبة في سوق العمل”، لذلك بات ضرورياً وضع أنظمة متكاملة لضمان جودة التعليم العالي، علماً أن وزارة التعليم العالي تبنّت منذ عام 2005 خطة إستراتيجية لبناء نظام الجودة وتحسين جودة وكفاءة العملية التدريسية ومستوى الخريجين، غير أن ذلك لم يخرج من قالب المصنّفات الورقية الأنيقة، أي لا تزال غير مطبقة بالشكل المطلوب.

تطوير المناهج

إن التطور الهائل للتكنولوجيا في كل المجالات، أدى إلى اتساع الفجوة بين ما يدرس في المناهج وما ينتج ويغزو الأسواق، وهنا ترى الخبيرة في الاقتصاد الدكتورة لمياء عاصي /وزيرة الاقتصاد السابقة/ أن الحديث عن ربط مخرجات التعليم بسوق العمل يقود مباشرة لضرورة الإسراع بتطوير المناهج الجامعية لتلبية احتياجات السوق، ولتفادي القصور والخلل ومحاولة ردم الفجوة التي تزداد اتساعاً بين جامعاتنا الوطنية والجامعات العالمية المرموقة، كإقامة نوع من التوأمة مع الجامعات العالمية التي تمتلك سجلاً متميزاً في البحث والتطوير، ولتطبيق بعض المناهج والبرامج المشتركة، وأعطت مثالاً يؤكد ذلك: “عندما كنت سفيرة في ماليزيا، أحد الطلاب من كلية “الهمك” في جامعة دمشق انتقل إلى ماليزيا وكان في السنة الرابعة (هندسة حواسيب)، ومن أصل 40 مادة كان قد نجح فيها في جامعته السورية وعلاماته فيها ممتازة، اعتمدوا له في الجامعة الماليزية فقط خمس مواد، وقالوا له بالحرف: لماذا تدرسون مواد كلها رياضيات فهي لا تعطيكم أي معارف لها علاقة بالحاسوب؟؟، وتساءلوا: لماذا لا تحتوي المناهج السورية مواد كافية مختصة بهندسة الحاسوب؟؟، هذا مؤشر إلى أن مناهجنا بشكل عام تعتمد فعلاً على الجانب النظري على حساب المعرفة العملية”.

مشكلة معقدة!

وبحسب “عاصي” فإن موضوع فرص العمل في سورية بات معقداً: “الخريجون الجدد في الجامعة يعانون من مشكلتين، الأولى أنهم لا يجدون فرص عمل، والثانية أنهم لو وجدوا العمل فتنقصهم المهارة اللازمة للانخراط بسوقه بشكل فاعل”.

وتشير “عاصي” إلى أنه في أوائل 2011 كانت نسبة البطالة في سورية حسب التصريحات الرسمية لا تتجاوز 8%، ولكنها ارتفعت مع الحرب بسبب إغلاق المنشآت وتوقف الفعاليات التجارية والصناعية لتصل في عام 2013 إلى ما يزيد عن 56%، وبرغم عدم وجود إحصائيات رسمية لكنها تفوق الـ 60% خصوصاً بين الخريجين الشباب.

وبرأيها أن معالجة الفجوة التي تزداد اتساعاً بين مخرجات التعليم وسوق العمل تكمن بجانب مهمّ منها في التدريب، سواء أكان في مواقع العمل أو من خلال مراكز تدريبية تابعة للكليات المختلفة ضمن الجامعة أو مراكز للتدريب في المناطق الصناعية تكون برعاية المعامل المنتجة في تلك المناطق، وشدّدت على ضرورة اعتبار التدريب العملي جزءاً لازماً وأساسياً لتخرج الطلاب في كل الاختصاصات العلمية، وأوضحت أنه في جامعات معظم دول العالم لا يتخرّج الطالب دون أن يقضي ستة شهور في عمل في إحدى الشركات، وفي نهاية التدريب يقدّم تقريراً عن عمله وعن المشكلات التي واجهها وعن مقترحاته لحلّ تلك المشكلات.

تحت المجهر..

بالمختصر، مشكلة الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، مشكلة خطيرة لا يمكن تركها تتمدّد وتتّسع أكثر فأكثر، بل بات وضعها تحت مجهر النقاش والبحث الجاد على أعلى المستويات أمراً ملحاً لإيجاد الحلول الناجعة من أجل تحقيق التوافق والتلاؤم، ولعلّ أولى الخطوات هي إصلاح التعليم وتجويده بمراحله المختلفة (التربوي والعالي) بما يكفل تخريج كوادر مؤهلة ومدرّبة تمتلك المهارات اللازمة، وتنطبق عليها معايير الكفاءة الوظيفية، وذلك لا يتحقق إلا بتطوير وتحديث المناهج، والتركيز على افتتاح تخصّصات جديدة وعصرية تتطلبها سوق العمل، والتقليل من القبول في التخصّصات التقليدية التي تشكّل عبئاً على الاقتصاد الوطني، ولا مانع هنا من الاستفادة من تجارب بعض الدول في حلّ الخلل والفجوة بين سياسات التعليم العالي وسياسات سوق العمل، وذلك من أجل اختصار وحرق الكثير من المراحل.

وأخيراً.. لا بد من الإشارة إلى أن وزارة التعليم العالي وعلى الرغم من وضوح المشكلة وخطورتها على المدى القريب والبعيد، إلا أن استجابتها لا تزال بطيئة لجهة التعامل مع متغيّرات ومتطلبات سوق العمل ومواكبتها بالقدر المطلوب حتى تضمن المواءمة بين المخرجات ومتطلبات السوق، والغريب أنها مستمرة بافتتاح تخصّصات وأقسام غير مطلوبة أو مرغوبة من الطلبة!.

نعلم أن النوايا طيبة، ولكن ماذا تنفع مع عالم يتغيّر ويتطور في كل ساعة ولا يعترف بمنطق الحلول التقليدية؟.

غسان فطوم