الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ويحدث هذا..!

عبد الكريم النّاعم

جلس صديقي الذي خطفتْ منه الأيام بريقَ عينيه، ووردَ ابتسامته، فما يُرى إلاّ عابساً أو شبه عابس، ولستُ ألومه، فأنا، على سبيل المثال، وأعوذ بالله من كلمة أنا،.. أنا الذي ما كنتُ أجلس لحظة واحدة دون أن يكون في المسجّلة شريط ما، يشكّل خلفيّة أرتاح إليها، الآن صار من الصعب عليّ أن أتذوّق جمال أغنية، أو روعة موسيقى، حتى لكأنّ هذه الأشياء لا تنكشف جمالياتها إلاّ عبر الأطر المحيطة بها، لكأنّ الزمن الصلد عليه أن يجعل كلّ ما حولك صلداً، حتى مشاعرك.

جلس صديقي، وقد صار قليل الكلام بعد أن كان ما يكاد يسكت، وأصبحت لقاءاتنا لا تنفتح إلاّ على الغموم، أردتُ أن أكسر جليدية الجوّ، قلت له: “هل نظلّ هكذا جالسين كالحدّادين الذين ما عندهم فحم”؟.

أشار بيده إشارة مَن يطرد خاطراً لا يريد له أن يحلّ عليه، وقال شبه هامس: “لم يبق فحم، ولم يبق حدّادون، رحم الله أيام تلك الأزمنة، فقد كان فيها كوّة نسمّيها كوّة الأمل، أمّا الآن فيبدو أنّ شياطين الدواعش والنّواهش قد سدّوا علينا حتى تلك النّافذة”.

قلت: “لا بدّ من أمل، وإذا لم يكن لنا أمل محدَّد واضح، فعلينا أن نبتكره، الحياة ليست صخرة مُقفَلة، وحتى حين تبدو صخرة مُغلَقة فعلينا أن نبتكر فيها درباً للنجاة، كيلا يظلّ دواعش السّفالات العالميّة قادرين على العودة، وفِعْلِ ما فعلوا، وكيلا يظلّ “نواهش” الداخل يسرحون ويمرحون، فيأكلون مالَ البلد، ويستصفون خيراته، ويتلذّذون في مآكلهم ومشاربهم على حساب الأكثريّة التي صار تأمين لقمة العيش همّاً يوميّاً لها”.

تحرّك قليلاً كمن دبّ فيه نشاط بطيء وقال: “من أين يا صديقي.. من أين؟!! اسمع هذه القصّة التي سمعتُها من جار لي البارحة، اضطرّ جاري لمبلغ مالي، فذهب لأحد أولئك الذين لا يعرفون ربّاً إلاّ المال، وطلب منه مبلغ خمسة ملايين ليرة، فقال له: “وما ضمانتك”؟ فأجابه لديّ أرض قيمتها ثلاثون مليوناً، وهي باسم زوجتي، أضعها رهناً”، فتلمّظ شايلوك في دم من وجد فريسة غشيمة وسهلة، فكتب على زوجته سنداً خلاصته إمّا أن تذهب الأرض حلالاً زلالاً له، مقابل ذلك المبلغ، وإمّا أن تُسجَن زوجة المستدين، إذا لم يوفَ الدين في زمن محدَّد، ولمّا كان للغباء مَن ينتمي إليه فقد وقّعتْ زوجته، وكان المستدين يُقدّر أنّه قبل فوات المدّة سوف يسدّد الدين وفوائده، ولكنْ.. سارت الرياح بما لا تشتهي السّفنُ، ووضع ذلك المُرابي الرجل أمام خيارين،  إمّا أخْذ الأرض، وإمّا سجن الزوجة، وهكذا شفط ذلك المُرابي أرضاً قيمتها ثلاثون مليوناً بخمسة ملايين لا غير!!”.

قلت: “القانون لا يحمي المُغَفَّلين”..

قال بغضب: “بل يجب أن يحميهم من هؤلاء الذئاب، وأن يكون للمظلوم نافذة يردّ فيها ظلْمه”.

قلت: “في القانون يقولون العقد شريعة المُتعاقدين”.

قال بغضب: “أنا مع القانون الذي يحمي من الظّلم، وكلّ قانون يتسرّب ظلمٌ منه هو غير إنساني”.

قلت له: “تصوّر أن يكون تعاملنا مع بعض، على صعيد العلاقات العامّة التي لا بدّ منها، بمثل هذا الافتراس الفظيع”.

قال: “وليتك تعلم من قبل مَن؟ من قبل مَن لديه من العقارات ما لا يعرفها حتى هو لكثرتها، وكلّ ما جناه كان مشوباً بالحرام، وإذا دخلتَ إلى مكتبه ورأيتَه كيف يتصرّف، وكيف يتّصل، ويطلب من هذا، ويكاد يأمر ذاك، لظننتَ نفسك مع مسؤول كبير في الدولة، فطريقة كلامه ولهجته توحي بأنّه لا يُردّ له طلب”.

قلت: “يبدو أنّ معركتنا عسيرة، وقاسية، ويجب أن تكون حاسمة، من أجل إعادة بناء المداميك الاجتماعيّة، وهذه قد تكون قابلة للإنجاز قبل المداميك “الأخلاقيّة” والتي تحتاج لسنوات طويلة كي نحصد بعض سنابلها، وما من خيار سوى قبول التحدّي أو تسليم الزمام لهؤلاء “الزعران”، وبعضهم “أزعر” بشهادة تزيّن صدر مكتب نصْبه وسرقاته..”!.

aaalnaem@gmail.com