مجلة البعث الأسبوعية

المنظومة التدريبية في سورية تحكمها الفوضى.. ونحتاج إلى جهة ناظمة تشرف على أداء وتنافسية القطاع

“البعث الأسبوعية” ــ غسان فطوم

أن تتخرج من الجامعة بمعدل ممتاز، في أي اختصاص كان، لا يعني أنك المفضل في سوق العمل، فاليوم تغيرت حاجات ومتطلبات السوق، فلم يعد يرضى بالشهادة الجامعية لوحدها، بل يشترط الخريجين المؤهلين والمدربين – أي الخبرة العملية من خلال التدريب المهني ما بعد التخرج بما يتناسب مع المتطلبات – لكن المشكلة أن سوق التدريب في سورية تحكمها الفوضى، بحسب رأي العديد من المختصين والمهتمين بقضايا التدريب الذين طالبوا بالعمل على وجه السرعة لإعادة النظر في المعايير والأسس التي تحكم المنظومة التدريبية في القطاعين العام والخاص، والتي دخلها أناس لا علاقة لهم بالتدريب، عدا عن أن هناك جمعيات ومؤسسات خيرية تركت مهمتها الإنسانية، وباتت تعلن عن دورات تدريبية في الخفاء والعلن طمعاً بجني الأرباح!

 

خبرة وجهل..!

ذلك ما يؤكده المدرب وائل الحسن، فمن وجهة نظره “لكي يكون التدريب فاعلاً نحتاج لمدربين متخصصين ولديهم خبرة طويلة في مجال التدريب والتأهيل، لأن ذلك من أهم عوامل وشروط نجاح إعداد البرنامج التدريبي الجيد والمناسب للشباب، كي يخوضوا تجربة أقرب للعمل المنتظر من خلال التدريب الميداني في المجال الوظيفي الذي يرغبون به لإكسابهم مهارات أكثر ومعرفة أفضل بأدق احتياجات الوظيفة”، مشيراً إلى أن مشكلة أكثر الشباب الراغبين بالتدريب تتمثل بجهلهم لكيفية اختيار الدورة التدريبية المناسبة لتحصيلهم العلمي والوظيفة التي يرغبونها.

 

زيارات ميدانية

ويرى الحسن أن القائمين على التدريب من الضروري أن يركّزوا على اعتماد البرامج ذات السوية العالية بتنظيم زيارات ميدانية لأهم المؤسسات في القطاعين العام والخاص من أجل جمع البيانات لأغلب المشاكل التي تواجه حديثي التوظيف، وعلى ضوئها يقومون بتصميم الدورات التدريبية المناسبة والتي تساهم بالمحصلة في تأهيل الشباب وفقاً لاحتياجات سوق العمل، مشيراً إلى أن بعض الشباب قد يتبعون دورات عشوائية لتوفير بعض المال لكن لا طائل منها لعدم توفر أساسيات التدريب فيها..!

 

منحة تدريبية

مجموعة من المتدربين من خريجي الجامعات باختصاصات مختلفة أشاروا إلى أن أبرز الصعوبات التي تواجههم في مجال التدريب هي عدم توفر التدريب الملائم لميولهم ورغباتهم، وارتفاع تكلفته، داعين إلى ضرورة إعطاء منح للشباب للانخراط بدورات تدريبية على مستوى عالٍ. وأشاروا أيضاً إلى وجود حالة من العزوف عن التدريب نظراً لغياب الرغبة والتحفيز، وغياب البرامج المتطورة التي تجمع مابين المهارة والمعرفة الأكاديمية، واقتصار مراكز التدريب على دورات موجهة لذوي القدرة المالية المرتفعة، رغم أن هناك ملاحظات كثيرة على برامجها النمطية.!

 

فرصة ذهبية!

خالد الطالب واحد من مئات ضحايا “دكاكين” التدريب، حيث يشعر باليأس لما حصل معه، فهو تخرج من كلية الاقتصاد منذ خمسة سنوات، ولم يجد عملاً باختصاصه، وقد أضاع وقتاً طويلاً وصرف مالاً كثيراً لتطوير مهاراته وخبراته في مجال المحاسبة، لكنه اكتشف أنه لم يستفد شيئاً: “للأسف أمضيت دراستي في الكلية باجترار معلومات نظرية بعيدة عن الواقع الحالي.. هذا الأمر أحبطني وأفقدني الحماس.. كان كل همّي الامتحان، وليس التعلم من أجل اكتساب المعرفة والخبرة”.

 

لم أستفد شيئاً!

ويؤكد زميله نضال – أحد الضحايا أيضاً – أنه التحق بأحد دورات التدريب الخاصة بتنمية المهارات والقدرات في مجال اختصاصه الذي درسه في الجامعة (محاسبة)، ويقول أنه لم يستفد كثيراً نظراً لعدم إلمام المدرب بعلم المحاسبة بالشكل الجيد، عدا عن عدم توفر البيئة التدريبية المناسبة داخل المركز، مستغرباً كيف يتم الترخيص لهكذا مراكز بإقامة دورات تدريبية لا تتوافق والمعايير والأسس الخاصة بذلك، علماً أنها تتقاضى مبالغ كبيرة..!

 

التكاليف مرتفعة..!

وتشير هند المحمد إلى عقبة كبيرة أمام اتباع الدورات التدريبية المهنية، وهي ارتفاع التكاليف التي لا يقدر عليها خريج جديد ربما يكون كاهله مثقلاً بالديون نتيجة مصاريف الدراسة، مشيرة إلى أن عيادات العمل في جامعة دمشق تعطي شحنة معنوية للخريج أثناء الكورس التدريبي، لكنها لا تستطيع أن تعلمه حرفة معينة تجعل منه شخصاً مرغوباً للعمل..!

وطالبت نيرمين حمزة أن يكون هناك ربط بين المراكز التدريبية المهنية في الجامعات مع المؤسسات بحيث يتم تأمين فرص عمل وخاصة للمتميزين وأصحاب المبادرات الخلاقة التي تكون نواة لمشاريع صغيرة تفسح المجال لعشرات فرص العمل.

وتساءل هيثم ونوس: لماذا لا تُحدث في سورية كلية لتنمية المهارات والقدرات، أو معهد عالٍ، بهدف توفير أيد مهنية ماهرة لسوق العمل “نحن بأمس الحاجة لها في مرحلة إعادة الاعمار”؟!

 

خلل واضح..!

“لولا دعم المنظمات والجهات الإغاثية للتدريب لتنمية المهارات البشرية كمهارات الدعم النفسي والاجتماعي لتلاشت منظومة التدريب الخاصة في سورية”، هذا الكلام لم يتردد بقوله الخبير الاستشاري بالتنمية البشرية والإدارية والاقتصادية، الدكتور هاني الخوري، مدير مؤسسة الرضا للتدريب والتطوير، مشيراً إلى وجود خلل في المنظومة التدريبية في سورية، حيث مرت بظروف صعبة – وما زالت – بسبب الأزمة التي تسببت بإلغاء موازنات التدريب في المؤسسات العامة، وأدت إلى شللها أو إضعافها في الشركات الخاصة، نتيجة انخفاض الدخول، ما أدى إلى تحول العملية التدريبية ودوراتها إلى رفاهية وليس من الأساسيات والضروريات التي نحتاجها اليوم لتأهيل كوادر ذات جودة عالية.

 

عشوائية قاتلة..!

وقال الخوري: إن دخول الجمعيات الأهلية والخيرية على خط التدريب عبر قاعات غير خاصة أدى إلى فوضى وعشوائية، حيث تعاقدت مع مدربين من دون ترخيص، ومن دون شهادات مهنية، وهو ما حرم المراكز التدريبية المعتمدة من دعم العملية التدريبية وجعل المنظومة التدريبية مأزومة: “التدريب بحاجة لمقرات مناسبة، ودعمها، وتصنيف وتقييم المدربين وضبط أدائهم”. وطالب الخوري بإحداث هيئة إشرافية على التدريب منظمة وضابطة للأداء وتكون على مستوى وزارة بكل اختصاصات التدريب، وتساهم بوضع استراتيجية لبناء الخبرات والمهارات التي تزيد الإنتاجية وتعزز التنافسية: “القطاع التدريبي هو أسرع القطاعات إنتاجية وأفضلها في إعادة تأهيل الموارد للعمل والإنتاج وكسر الفجوة في دخول السوق وتأمين الاحتياجات الإنتاجية من خلال دراسة الاحتياجات التدريبية، لأنه كلما ارتقت المنظومة التدريبية صار تعافي قطاع الموارد البشرية أفضل وأقرب”.

 

سوية البرامج التدريبية

وانتقد الخوري سوية البرامج التدريبية في سورية واعتبرها منخفضة بشكلها المأجور نظراً لضعف الدخل، مشيراً إلى أن المنظمات الاغاثية تدعم برامج تدريبية مجانية لأكثر من خمسين ساعة تدريبية وقد تصل إلى مائتي ساعة ولكن مستوى التزام المتدرب بالتدريب المجاني وفائدته غالباً ما تكون منخفضة لأنه لا يُخطط له كونه منحة وليس آلية للتميّز واستثماراً للمستقبل، حيث تتراخى المراكز التدريبية في خدمة التدريب المجاني من ناحية اختيار المتدربين وتحفيزهم وتلتزم شروط وتوجهات الجهة المانحة، “لذلك نجد أن هناك هدراً كبيراً في المنح التدريبية ودراسة الاحتياجات التدريبية وإنضاج البرامج”، وأوضح خبير التدريب أن الشباب اليوم لا يملكون الإرادة والطاقة للإبداع والتقدم بالمهارات كما كان قبل الأزمة، لافتاً إلى أننا نحتاج لتركيز ورفع سوية وأداء التدريب المهني والإداري في بما يتناسب وحاجات سوق العمل.

 

الحلول المتاحة

قبل الحرب، كانت سورية تحتاج سنوياً لأكثر من 250 ألف فرصة عمل، أما اليوم، في ظل انكماش الفرص، فقد تضاعف العدد لرقم مخيف، حيث لا حلول متاحة لامتصاص طالبي العمل.

تعليقاً على هذه الحال، بيّن الخوري أن سوق العمل في سورية فيها اليوم فرص عمل كامنة، موضحاً أن عملية البناء والعمران وإعادة هيكلة الإدارات والتنمية الإدارية تحتاج لكوادر مؤهلة ومدربة وماهرة، وهذا يتطلب منظومة تدريب احترافية ذات أداء ومصداقية عالية لأن الفجوة التدريبية اليوم كبيرة، ويضيف: “سورية بحاجة إلى استراتيجية بناء موارد بشرية وخريطة خبرات ودراسة احتياجات السوق، كما تحتاج إلى جهة ناظمة وجامعة للتدريب والتأهيل بكل أنواعه ومستوياته تشرف على تنافسية وأداء المنظومة التدريبية، وبحاجة أيضاً لموازنات سخية وعالية لرفع الأداء وحفظ هيبة الأداء المعتادة بالدولة”.

بالمختصر، تعاني سوق التدريب في سورية من الخلل، فالمراكز التدريبية ليست في سوية واحدة، وبعضها يتعدى على المهنة بهدف الحصول على الربح المادي؛ ومن هنا تبرز الحاجة إلى التشدد بمنح التراخيص، فالتدريب استثمار في المستقبل، وهو حجر الأساس في النجاح والتميز بالعمل، ويعطي حافزاً لتطوير الذات وتنمية المهارات إلى المستوى الذي يحقق التنافسية، ولا سيما التدريب الميداني الذي يتيح للشباب الباحث عن فرصة عمل، وخاصة الخريج الجديد في الجامعة كي يتعرف بشكل عملي على بيئة العمل الذي سيمارسه مستقبلاً لينجح فيه بدلاً من أن ينتظر بلا أمل قريب!