مجلة البعث الأسبوعية

صراع الذات مع الآخر لا ينتهي والرواية دليل.. “البوصلة” شرقاً: إنه الخداع، أما الذات فهي الاتجاه!!

“البعث الأسبوعية” ــ د. وائل بركات

في عام 2015، فازت رواية “البوصلة “للروائي الفرنسي ماتياس إينار (المولود عام 1972 في فرنسا) بجائزة غونكور للرواية الفرنسية، بعد أيام قليلة من حادثة الاعتداء المعروفة على جريدة شارلي إبدو التي ذهب ضحيتها قسم مهم من كتَّابها. المحور الأساسي للرواية هو الحديث عن رؤية الغرب تجاه الشرق عبر الرحلات التي قام بها البطل فرانتس مع صديقته سارة إلى مدن الشرق الغامض للتعرف إليه، وعبر الأعمال والأبحاث التي قدمها الرحالة والمستشرقون في القرون القليلة الماضية للتعريف بالشرق وبتاريخه وبالعلاقة معه.

تنشد الرواية في وجهها المشرق الحواري ضرورة تبني فكرة الحوار بين الغرب والشرق. فكلاهما يحتاج الآخر، وصلاتهما الماضية قوية وواضحة، ولابد من استمرارها ليتعزز التفاهم بينهما، ولتنشأ روابط التلاقي والتواصل بغية تجنِّب أشكال الاختلاف والصراع والعداوة. وتبرز ذلك من خلال مجموعة من القضايا، نستعرضها بإيجاز. بداية من العنوان، حيث تفقد البوصلة في هذه الرواية توجهها الطبيعي الذي يدل على الشمال، وتتخذ من الشرق وجهة ثابتة لا تتغير: “فما إن تحاول تحديد وجهتك حتى تعي أن هذه البوصلة تشير إلى الشرق وليس إلى الشمال” (349). فكيفما وجه بطل الرواية فرانتس البوصلة يراها ثابتة في توجهها نحو النور الشرقي، وها هو في هذه الأمسية التي تستحضر مجمل حياته، وربما أيضاً تاريخ العلاقة بين الغرب والشرق، يواصل البحث عن ملجأ يلوذ به ليخفف عنه ألم انكشاف روحه، فتكون ذكرياته في الشرق حله الوحيد.

وتشير الرواية إلى اعتمادها الروح الحوارية في عنوان رسالة الدكتوراه التي تحضِّرها سارة، صديقة فرانتس، والمعنونة بـ “النظرة إلى الآخر بين الشرق والغرب”، وتشرح فيها – وهي المحِبَّة للشرق والباحثة فيه وعنه – قناعاتها بأهمية الحوار واستبعاد الصراع. وحين تلقي أبحاثها في الندوات الاستشراقية تؤكد هذا الفهم وتدافع عنه بقوة. الموسيقِّي فرانتس، من جهته، يعاني المرض والقلق والوحدة، بعد اكتشافه مرضاً خطيراً ينهك جسده. وليتجاوز ضعفه يستنجد بالموسيقى الشرقية التي أثَّرت في نظيرتها الغربية وأغنتها: “أبنتُ أن الثورة التي حدثت في الموسيقى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تدين بكل شيء إلى الشرق” (161). ويرى أن هذا التأثير ضروري في الحياة، فالإبداع والتميز يحتاجان إلى اللقاء مع الآخر الذي يضيف ويغني، “لقد هبت رياح الغيرية على كل أوروبا، فأخذ هؤلاء العظماء يستخدمون ما يأتيهم من الآخر، لتغيير الذات، لتهجينها، فالعبقرية تصبو إلى الهجنة، إلى استخدام أساليب الآخر لزعزعة استبداد التناغم” (161). وينسحب هذا الحكم على الأدب أيضاً. فها هو بلزاك يزيِّن روايته”الجلد المسحور” بنص عربي، زوده به صديقه المستشرق النمسا ويبورغشتال، ليكون أول من يدرج كتابة عربية في عمل أدبي. وما كان منه إلا أن أهدى لـ بورغشتال روايته “حجرة التحف” اعترافاً منه بفضله عليه، وشكره له على ما زوده به من معلومات عن الشرق.

كما أظهر الكتاب والفنانون الغربيون في مؤلفاتهم عشقاً لـ “ألف ليلة وليلة” وللشرق، واهتماماً بهما، لا يبدأ مع غوته في الديوان الغربي الشرقي، وفي رحلة شاتوبريان، وأمسيات لامارتين، وأعمال هيجو ورامبو ونيرفال وغيرهم الكثير، لكنه أيضاً لا ينتهي بما جادت به روح الشرق على وجدان بيتهوفن ومينديلسون وکورساکوف وغيرهم من الموسيقيين الأوروبيين الذين لا يزالون يدهشون بعبقريتهم أسماع العالم حتى اليوم. إنها الروح الشرقية التي لونت عالم الغرب، وانعكست فيه دهشة وسحراً، ففتَّش عنها المستشرقون طويلاً. وبالمقابل دخلت “ألفَ ليلة وليلة” تأثيراتٌ غربيةٌ هي نتيجة طبيعية للتلاقي الثقافي بين الشعوب: “ها نحن مرة أخرى أمام بنيان مشترك، فعل معقد للزمن حيث يتداخل خيال بخيال آخر،إبداع بإبداع آخر، أوروبا بدار الإسلام” (255)، فالعمل الفني كلما زادت خبراته المكتسبة كان أجود وأكثر إبداعاً وتألقاً.

وفي مجال فن العمارة، وبعد أن اكتشف البريطانيون تدمر في القرن الثامن عشر، قاموا برسم معالمها ونقلوها إلى بلادهم ووزعوها صوراً في أنحاء أوروبا، تحولت هذه الرسومات إلى نماذج لـ “الكثير من الواجهات والأعمدة النيوكلاسيكية المنتشرة وقتذاك في العمارة الأوروبية: عواصمنا تدين بالكثير إلى تيجان الأعمدة التدمرية، وثمة شيء من صحراء سورية يعيش متوارياً في لندن، في باريس أو في فيينا” (169 – 170). وبذلك اقتحمت تدمر والصحراء المحيطة بها تصاميم الأبنية الأوروبية، فأضفت عليها جمالية بديعة وغير مألوفة.

في هذا الوجه المشرق للرواية، يحاول إينار الترويج لفكرة أن الشرقَ والغربَ متداخلان ثقافياً، وأن علاقتهما سيمفونية حب وتفاهم. ويستطيعان – مبدئياً – التلاقي والتثاقف وإقامة الحوار الحضاري الذي يتم بحب الانفتاح على الآخر والتعاون معه.

بالمقابل، في الوجه الآخر المعتم، الصراع مع الشرق، تؤكد الرواية حقيقة معروفة في التفكير الغربي تجاه الشرق،تتنافى مع الصورة المثالية للحوار المعروضة آنفاً، وهي أن الصراع ناتج عن النظرة الاستعلائية المهيمنة على الفكر الغربي بوصفه مركزاً وما عداه هامش. لذلك نجد الرواية تجانب الموضوعية والواقعية حين يتطلب الأمر إبداء رأي بما يجري على أرض الشرق. فالنظرة الاستعمارية حيَّةٌ إلى الآن.

 

دور الوصي، وجه المستعمر

انتهى الاستعمار بشكله المباشر، أو يكاد، لكنه بقي محافظاً بصورته ما بعد الاستعمارية على أفكاره السابقة. كل ما قام به هو تطوير أدواته، وتغيير وجوهه ليحقق غايته المرجوة: إحكام السيطرة على الآخر، انطلاقاً من مبدأ أن القوة تفرض نفسها، ومن فكرة تأكيد التفوق على الآخر وإرغامه على الخضوع للوصاية، وإلا فالهلاك. من هنا تتشكل نظرة الغرب إلى الآخر الشرق منسجمة مع ذهنية التميز المطلق التي تروجها السياسات الغربية تجاه الشرق، وخاصة العرب فيه. فما تراه هذه النظرة هو الحقيقة بعينها، ولو ناقضت الواقع والحقائق. لذلك يكون انعكاس الحرب على سورية في هذه النظرة بعيداً عن حقائق الواقع، ومعبراً فقط عن المصالح التي ترسمها سياسات غربية استعمارية المضمون، إنسانية المظهر، لا يهمها ما يحدث من خراب ودمار عند الآخر. فسورية الآمنة المستقرة الباحثة عن نهوض اقتصادي واجتماعي وفكري تحرري، تجد نفسها مسرحاً للإرهاب والقتل والتدمير الممنهج ليس فقط للبنى التحتية التي دفع الإنسان السوري ثمنها طيلة عقود من الزمن، وإنما أيضاً للإنسان نفسه وللتركيبة الاجتماعية المتماسكة التي جمعت أطياف الشعب السوري منذ القدم.

يقدم الإعلام الغربي الحرب في سورية وفق مصالحه، فيطلق التهم يميناً وشمالاً على وطن يدافع عن نفسه وحضارته وتاريخه وهويته فقط لأنه لا يتوافق مع رؤاه السياسية. ومع أن الرواية تعترف نصاً بأن الإرهاب الذي يخوض الحرب على سورية هو صناعة غربية بالتأكيد،جُنِّد لتخريب المجتمعات قبل تدمير العمران، لكنها أيضاً لا تتجرأ على تقديم الحقائق الموجودة على الأرض، فتعتمد في مواضع عدة الخطاب الإعلامي السائد في الغرب. ولولا هذا الاعتبار، لكانت قد أشارت إلى دور السوريين الوطنيين في مواجهة هذه القوى الإرهابية والظلامية التي صنَّعها الغرب ودربها ومولها وأطلقها، وهذا ما يعرفه السوري جيداً، تقول الرواية إنه: “إسلام متطرف، عنيف وحديث العهد، أبصر النور في أوروبا وفي الولايات المتحدة، قنابل غربية (…) مساكين السوريون. مصيرهم لا يثير اهتمام وسائل إعلامنا إلا قليلاً جداً” (308).

وبعد هذا الوجه المستهجن، تتابع الرواية تجسيد الآثار السلبية لسياسة الغرب الاستعلائية والاستغلالية تجاه هذا الشرق المسكين المتعثر في جوانب كثيرة من حياته وتاريخه، ومن ذلك:

 

السطو على آثار الشرق

لاشك أن بين المستشرقين من أسهم في السطو على آثار الشرق الذي لم يعرف كيف يحافظ على ممتلكاته الخاصة، وتاريخه العريق ذي الطابع الحضاري والإنساني العالمي. ويحق لنا أن نتساءل هنا : كيف تغص المتاحف الأوروبية بالآثار الشرقية وبالمخطوطات العربية، وتحرم منها متاحفنا ومكتباتنا؟ فالحقيقة كما يذكرها المستشرق الألماني بيلغر “أن جميع علماء الآثار المرموقين قد لطخوا أيديهم، في وقت ما، في شؤون سياسية من المستوى الرفيع” (198 – 199). وتؤكد سارة الأمر وهي تتساءل عن موقف العمال السوريين الذين يحفرون الأرض للمستشرقين بحثاً عن الآثار المدفونة: “لدي فضول لمعرفة ما تمثله هذه الحفريات لهؤلاء العمال. هل يشعرون بأننا نسلبهم تاريخهم؟” (71). يربط هؤلاء المستشرقون سرقة آثار الشرق بفكرة شائعة جاهلة وغبية عند بعضهم تقول إن هذه الآثار ليست لنا طالما أنها غريبة عن الثقافة الإسلامية: “يستطيع هؤلاء المدمرون الإسلاميون المعتوهون، استخدام الحفارات بسهولة أكبر في المدن القديمة الأثرية، طالما أنهم يجمعون، إلى جانب جهلهم وغبائهم المطلق، الإحساس المنتشر إلى حد ما، بأن هذا التراث انبعاث غامض، وذو أثر رجعي، عن القوى الأجنبية” (72). وكأنه إرث لا علاقة لشعب هذه الأرض به، لأنه خارج الحيز الزمني الذي لا يعترفون بسواه. لذلك دمرت هذه العقلية الآثار التاريخية والأوابد المهمة والمدن الكاملة بدم من جليد.

 

الصراع الديني

تضفي الرواية الطابع الديني المقدس على الصراع بين الغرب والشرق، بدءاً من الحروب الصليبية ومروراً بتلك التي قامت بين العثمانيين والأوروبيين، وانتهاءً بأوجه الصراع الحديث الذي يشغل الجانب الديني، إضافة إلى الاقتصادي بالطبع، الحيز الأكبر فيها. فالصليبي المسيحي طامع في خيرات الشرق، والتركي المسلم طامع بأراضي الغرب، إنه الصراع الديني والاقتصادي معاً. “باسم المسيح، دمروا أبهى عجائب وقعت عليها أبصارهم في حياتهم. لقد نهبوا كنائس القسطنطينية وأحرقوا القدس وأنطاكية. أُّي حقيقة أحرقتنا نحن” (221). هذا في القديم، أما في العصر الحديث، وتحت راية الحرب الدينية المقدسة أيضاً، أطلق الألمان وحلفاؤهم في بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 دعوة غريبة من نوعها تطالب المسلمين بالجهاد العام والانضمام إلى قواتهم، وإلى العصيان العسكري ضد الدول التي يعملون لديها كفرنسا وانكلترا وغيرهما. إنها صورة عن إضفاء الطابع الديني على حرب خارجية بعيدة، وعن استغلال للمشاعر الدينية خدمة لأغراض سياسية وعسكرية. فالإسلام يصبح أداة في مواجهة جزء فقطمن “الكفار” الأوروبيين: “إذ هي لا تدعو إلى قتال جميع الكفار، وتستثني منهم الألمان والنمساويين وممثلي البلدان المحايدة” (310). وتعزيزاً لهذا المفهوم وللمواظبة على بث روح الحماسة فيه، حرص الألمان طوال الحرب على إصدار جريدة بالعربية تصدر في برلين عنوانها الجهاد.

بالمقابل كان للدول المستهدفة بهذه الدعوة (الإنكليز والفرنسيون) ومن تحالف معهم من الأوروبيين، دعوةُ جهاد مضادة بأداة عربية مسلمة أيضاً دفعت الجزيرة العربية إلى الوقوف مع الإنكليز والحرب إلى جانبهم. وكانت النتيجة الكارثية على المنطقة العربية: “بداية أسطورة لورنس العرب التي، لسوء حظ العرب، انتهت إلى الانتداب الفرنسي والبريطاني على الشرق الأوسط” (310).

أما في الحرب العالمية الثانية فقد حاولت ألمانية النازية كسب المسلمين إلى جانبها كما فعلت في الحرب الأولى. واستغلت المشاعر الحماسية لمفهوم الجهاد عندهم، فدعتهم إلى الجهاد ضد أعدائها وإلى ضرب الإنكليز والفرنسيين والروس في آسيا الوسطى والهند والشرق الأوسط. والمفارقة الكبرى هنا هي “أن المستشرقين المختصين بالإسلام استشيروا لمعرفة ما إذا كان القرآن، بطريقة أو بأخرى، يتنبأ بقدوم الفوهرر” (325)، ولما كانت الإجابة بالنفي وعدم الإمكانية، اقترحوا كتابة نصوص بالعربية تصب في هذا الاتجاه. ووزعوا صوراً لهتلر يلبس العمامة ويعلق الأوسمة والنياشين العثمانية لتجعله محبوباً من قبل المسلمين. يمكننا تخيل رؤيتهم للعرب والمسلمين، لدرجة يسخرون فيها قيمهم الدينية في خدمة حروبهم المجنونة التي لا ناقة لنا فيها ولا أمل.

 

الجهاد ضد البلاد

تحولت هذه الدعوات الجهادية التي أطلقها الأوروبيون سابقاً إلى دعوات على لسان إسلاميين متطرفين تم تصنيعهم –كما تقول الرواية – في الغرب، ونُقِلَت ساحة الصراع إلى الأوطان، لتتحول إلى حرب في الداخل بين أطراف البيت الواحد، خدمة للآخر (الغرب). وكانت النتيجة أن تحصد هذه الحروب الأرواح، وتدمر البنيان، وتزرع الرعب بين السكان مثلما فعل المغول تماماً حين كانوا “يقيمون أهراماً من الرؤوس المقطوعة لزرع الرعب في نفوس سكان المناطق التي يغزونها – الجهاديون في سورية يلجأون إلى الوسيلة نفسها تقريباً، بث الرعب والذعر عبر استخدامهم على البشر، تقنية ذبح كانت حتى الآن مخصصة للتضحية بالخراف فقط” (320 – 321).

ويتساءل المؤلف إينار، الذي يعلن حبه لسورية “من كان يتخيل في باريس عام 1999، وهو يشرب الشامبانيا، أن سورية ستؤول إلى الخراب نتيجة أشنع أعمال العنف، أن سوق حلب ستلتهمه النيران، أن مئذنة الجامع الكبير ستنهار، وأن كثيراً من الأصدقاء سيلقون حتفهم أو يرغمون على اختيار المنفى؛ ومن بمقدوره، حتى في هذه اللحظة، أن يتخيل جسامة الأضرار وفظاعة الألم وهو قابع في شقته المريحة والهادئة في فيينا” (16 – 17). صحيح أنه لم يكن متخيلاً أن يحدث ما حدث، لكن قسوة المشهد مرعبة، فالسفاحون يحرقون ويبيدون ويدمرون. وفي أوقات الفراغ يغتصبون ويذبحون دون استثناء، حتى لو تعلق الأمر بعالِم قلَّ مثيله في العالم، حافظ على آثار سورية وتاريخها وجعلها عالمية. استجوبوه لأسابيع، مات ألف مرة، وهو البالغ من العمر اثنتين وثمانين سنة، قبل أن يجهزوا عليه بالذبح. فهل نحن من يثبت للآخر أننا نمتهن العنف والإرهاب، مع يقيننا من دور هذا الآخر الواضح فيه؟