مجلة البعث الأسبوعية

رصف السماء بالألوان.. أول وردة شامية كانت على شكل فسيفساء مشغولة بحب!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

فطرة موهوبة

حين نتفنن في حكايات قبل النوم، تعالوا نقول لأطفالنا قصصاً تستند إلى واقع ملموس وحقائق تاريخية واضحة الملامح، لا زيف فيها ولا خيال؛ فأغلب الشعوب الحديثة، التي لا تمتلك امتداداً جذرياً في منطقتها، ولا تاريخاً أصيلاً، تخترع قصصاً وهمية، وتبدع في خيالها لاستحداث قصص عن أصالة عرقها وتاريخها المزعوم؛ ونحن أولى بالتاريخ من الجميع، فأهلنا ركبوا الخيل معه لمّا رُوضت الخيول أول مرة، وحفروا أقنية الري لما أسست حضارة الزراعة أولى بساتينها، وكانوا مع التاريخ كتفاً بكتف، يعملون على بناء أول منزل من طوب مشوي، يتقنون صناعة قوالبه، ومن ثم يزينونه بألوانهم وتفاصيلهم الجميلة؛ فالمزارع السوري يعتبر أول إنسان عرف كيف يستثمر الوجود الفني للحجر والطين والشجر، وكل رب أسرة كان يصنع من منزله تحفته الخاصة: عش الزوجية، ومأمن الأولاد، وقلعة الرزق التي ينشد فيها دعة الحياة، يزين جدرانه ويجمّل فناء داره؛ ولا ريب أن قدرته على الزراعة والبستنة أضفت على ذائقته الفنية جمالاً من نوع خاص، فراح يشابه جمال الخلق والطبيعة بصناعة لوحاته الخاصة، ومن هنا بدأت التجارب الأولى في رصف الحجارة الملونة، جنب بعضها بعضاً، لتظهر نواة أولى اللوحات الفسيفسائية.

تقول المعلومة في المدونات الإلكترونية ما معناه: إن وطننا الغالي، سورية، يعد من أغنى الدول وأعرقها في فن رصف الحجارة الملونة “الفسيفساء” في المعمورة، وهي تمتلك أكبر مخزون معروف من هذا الفن، وما زال الكثير منه مطموراً هناك ينتظر إفساح المجال له للخروج إلى العلن؛ فعبر حقبها التاريخية المتعاقبة، ازدهر فيها هذا الفن، ونما بشكل مذهل، لتصبح من أكبر الخزانات الفنية به: جداريات، وأرضيات، وأسقف، وحتى أعمدة ضخمة.. كلها كانت تزين باللوحات! وتعاقب الفنانون على تزويد هذه الأرض بلوحاتهم عبر الحقب بحسب حاجاتهم، ورغبات الحضارة لتلك الحقب، ولعل أبرزها وأهمها الحقب اليونانيّة والرومانيّة والبيزنطيّة، ثم الإسلاميّة.

الحقيقة الواضحة أن فن الفسيفساء، الذي ارتبط بالعمارة الداخليّة والخارجيّة، يُغطي المناطق السوريّة كافة، بدءاً من محافظة إدلب، فحماة، والساحل السوري. وانتهاءً بجبل العرب، والجامع الأموي الكبير في دمشق الذي تحوي جدرانه لوحات جميلة ودقيقة ومميزة منفذة بتقنية الفسيفساء. وتتميز الفسيفساء السوريّة، عموماً، بأنها متعددة الموضوعات والعناصر، وتتوزعها عدة مواقع ومطارح قديمة في سورية، منها: حرين، مريمين، هرقول، جيرجناز، بسقلا، دير سمعان، تل عار، حوا، معراتا، أم حارتين، شهبا، أفاميا، ومجموعة مناطق أخرى كثيرة.

 

اللون وتأثيره

من غير اللائق، ونحن في عصر التقانات وسرعة الوصول للمعلومة، أن يبقى بعض فناني اللوحة الطفلية منغلقين على نمط واحد من الفن، ومن المجموعات اللونية وتقاناتها على المجموعة اللونية الواحدة.. التنوع في المشارب ضرورة ملحة ومهمة بالنسبة لفنان لوحات الطفل، وخصوصاً للمبتدئين في تسلق سلم هذا الطريق النبيل.

لجينة الأصيل، الفنانة المبدعة في طفولتها وقدرتها النبيلة على التبسيط، يشع الفرح من عيونها كالطفلة وهي تعرض علينا – نحن أبناؤها – لوحاتها التي ترسمها لدار نشر هنا، أو لمجلة هناك. نحس الفرح ينبع من ألوان لوحاتها، تماماً كما خروج بريق عينيها.. هذا الفرح لم يأت – بحسب رأيي – من فراغ، بل كان هناك مخبوءاً في روحها، وروح الرعيل الأول المؤسس لهذا الفن الجميل في سورية! حين كانت تجرب وضع اللون بجانب اللون، وتعطي للأرنب حصته من فرح اللون، وللتمساح والفيل والزرافة والعصفور كل واحد منهم له حصة، فلا تنابذ ولا تدافع، بل تكامل يشبه، إلى حد كبير، ما بدا نابهاً من شرح وله السوريين الأوائل بفن رصف الحجارة الملونة الصغيرة بجانب بعضها البعض.

 

يُحكى أنّ..

السوريون لم يكتفوا بتزيين مدنهم ومحالهم ومعابدهم بفن الفسيفساء، بل كانوا معلمين محترفين يصدّرون هذا الفن للعالم، بل ويقومون برحلات تعليمية فنية لحرفيي الدنيا لتفقيههم بهذا الفن، وتعليمهم أصول حرفته، فقد ذكر المؤرخ فيليب في مدوناته أنه من الراجح أن يكون الصناع والفنانون السوريون استعدوا لتجميل العاصمة “رافنا” فكانوا هناك يُعلّمون حرفتهم للصناع المحليين، وأدخلوا صناعة الواجهات والجدران والسقوف.

 

حكاية ما قبل اللون

جلس جد طاعن في السن يحكي لحفيدته ذات الجدائل الليلكية العطر: أتعرفين من علمني صناعة هذه اللوحات الجدارية التي تزين بهو المنزل يا حلوتي؟ سالت الطفلة بمرح: من يا جدي؟

قال لها: كان التاريخ يسكن في جوارنا، يساعدنا في بناء منازلنا، ونساعده في كتابة أوراقه.. مرة تعثر بثوبه الفضفاض، فسقطت جرة ملونة من يده وتناثرت قطعها على أرض الطريق، فراح يندب حظه، بينما جاء من بعيد فلاح أسمر يشبهنا، وبدأ يلملم أجزاء الجرة المكسورة، لا ليعيد لها سيرتها الأولى، ولكن ليعلمنا كيف نصنع من حطام طوب هذه الأرض لوحات فنية خالدة، فكانت أول وردة جورية شامية على شكل لوحة فسيفسائية مشغولة بحب!!