ثقافةصحيفة البعث

“مذكرات عائلة” من وإلى الجمهور

يتابع الجمهور السوري هذه الأيام على شاشة قناة “لنا”، أحد أهم المسلسلات المحلية وأنجحها في مسيرة الدراما المحلية وعلى عدة مستويات، القصة، الفكرة، المعالجة، الحوار، الأداء، النوع، الفرجة، الأثر الجيد عند الجمهور، والذي تابعه بمختلف شرائحه العمرية التي قدمها مسلسل “مذكرات عائلة” (تأليف ريم وأمل حنا – إخراج محمد فردوس أتاسي) وهو عبارة عن دراما اجتماعية معاصرة، متعددة المواضيع والقضايا التي تهم عموم المجتمع السوري الكادح، ويسلط الأضواء الكاشفة على العديد من المشاكل الاجتماعية التي تعني الشريحة الأوسع من جمهور التلفزيون.

العمل جاء بحلقات متصلة منفصلة، أنتُج في تسعينيات القرن الماضي، ولاقى نجاحاً مهماً عند الجمهور، وهذه الإعادة لعرض العمل، هي فرصة لتسليط الضوء على أهم أسباب نجاحه. فـ”مذكرات عائلة” يقدم حكاية أسرة سورية من الطبقة الكادحة متوسطة الدخل، مكونة من خمسة أفراد: الأب -سلوم حداد، وهو مدير مدرسة، الأم- سلمى المصري- تعمل موظفة، وثلاثة أبناء: شكيب–باسم عيسى-ريم- كاريس بشار- وهما طالبان في المرحلة الثانوية، وآخر العنقود سامي- لؤي حورانية- وما يجري مع هذه العائلة من أحداث وقصص من صميم حياتهم الأسروية والاجتماعية، سواء بين بعضهم البعض، أو بين كل فرد في هذه الأسرة ومحيطها، وما يحدث من تأثر وتأثير متبادل بحكم طبيعة الحياة نفسها، على الحياة العامة والخاصة للأسرة السورية عموماً.

يتناول العمل في كل حلقة موضوعاً مختلفاً يُطرح من وجهة نظر عائلية، وغالباً ما تحدث تلك المواضيع أو القضايا في كل أسرة سورية تقريباً، كالمشاكل الاجتماعية عموماً، إن كان في العمل، المدرسة، أو في الحياة الخاصة والمشتركة سواء بين أفراد الأسرة مع بعضهم البعض، أو مع محيطها العام، وهذه أول عوامل جودة هذا العمل، فهو من الحياة المعاصرة، شخصياته من الناس عموماً، مدير مدرسة، سيدة موظفة، طلاب مدرسة، مشاكلهم، همومهم، أفراحهم، وما يحدث معهم كأسرة وأفراد، هو ما يحدث مع الناس، العمل لا يتعالى على الجمهور، بل إنه يعتني بالدرجة الأولى بجمهوره المحلي، في حين تتقصد العديد من أعمالنا المحلية مخاطبة جمهور غير سوري، فلا تحصّل النجاح لا عند هذا ولا عند ذاك، فالدراما عموماً تنبع من المجتمع وتصب فيه.

السبب الثاني من أسباب السوية الفنية الراقية لـ”مذكرات عائلة” هو الخيارات الموفقة والمنسجمة وطبيعة المسلسل للممثلين الرئيسين، مع المراعاة الكبيرة جداً لأعمار الشخصيات ومدى ملاءمتها للدور؛ دون هبوط ممثلة أو ممثل من غامض علمه ليحرق التوليفة كما يحدث في العديد من مسلسلاتنا اليوم، وهذا الخيار الموفق والصارم من قبل مخرج العمل المحنك، ظهرت صوابيته من خلال التناغم والانسجام المثالي في الأداء البارع والمدروس لكل شخصية، ومنطق تعاطيها مع بقية الشخصيات.

إسناد الأدوار الرئيسية لممثلين شباب لم يكن الجمهور يعرفهم جيداً حينها، فشخصية ريم مثلاً، جاءت كما يقال “حفر وتنزيل” للممثلة الشابة حينها، أي الانسجام التام بين الشكل والشخصية، من جهة العمر، طبيعة التفكير، السلوك، الأفعال وردودها  على عكس ما يحدث في عموم درامانا اليوم، إذ لا يمكن للجمهور في بعض المسلسلات، معرفة من الأم ومن الابنة، بعد أن جعلت عمليات التجميل معظم الوجوه والملامح واحدة، وصارت الممثلة الخمسينية مثلاً تقدم دور طالبة جامعة أو عاشقة تجاوزت سن المراهقة ببضع سنين فقط!

الأزياء: واحدة من أهم مكونات الفرجة الدرامية والتي يتم دراستها وانتقاءها بعناية شديدة بما يتناسب مع الحدوتة، نوعها طبيعتها الشخصيات وعوالمها، الزمان، هذا كله يجعل من الأزياء في الدراما بعمومها من أهم مكوناتها، فالأزياء بمدلولاتها على “الزمكان” وطبيعة المجتمع السائدة فيه، تُعلي من جودة العمل وسويته الفنية، والأزياء التي ظهرت بها الشخصيات، جعلتها أكثر قرباً من الجمهور، الذي وجد نفسه فيما يتابعه على الشاشة، إن كان على مستوى المضمون و الشكل، ففدوى هي المرأة الأم والعاملة في المجتمع السوري، ثيابها ليست من الماركات الفاخرة، لكنها أنيقة، بسيطة، والأهم أن كل النساء اللواتي في نفس ظروف فدوى الاجتماعية، وجدن صورتهن بها، لتقدم مثالاً مشرفاً عن المرأة السورية التي تدهور مستواها في الكثير من الأعمال التي استهلكتها وقدمتها برخص وإسفاف؛ ولا ننسى المكياج المتناسب أيضا مع الشخصية، ويمكن القول أن أحد أهم أسباب شعور المتفرج السوري بالغربة مع دراماه، هو أنه يشاهد ما لا يشبهه، فاليوم تكون الأم في العديد من أعمالنا الدرامية، من الطبقة الفقيرة، لكن ثيابها، توليفة مكياجها، شكلها، حتى نوع جوالها، يقولون عكس ذلك!

الموسيقا التصويرية: وضع موسيقا العمل المذكور الفنان “نعيم حمدي”، ويمكن في حال شبهنا العمل بالأوركسترا، ربما لا يصل للمستمع صوت آلة “التشيلو” كونه منخفض التون، لكنه يضيف للمعزوفة لمسة سحرية تعطيها روحاً، إنها من مكونات الفرجة، وهي مشغولة بحرفية كي لا تطغى على بقية العناصر الدرامية الأخرى.

المكان والديكور: أحداث العمل عامة تدور في منزل الأسرة، فالمنزل هنا بما يرمز إليه هو مسرح الأحداث الرئيسي، ويمكن القول إن العمل قريب من أعمال “السيت كوم”، بيت عائلة كادحة من جهة المساحة، ديكور مناسب من جهة الأثاث، نوعيته، شكله، طبيعته.

أما الأهم في العمل رغم تعدد مواضيعه، أنه قدم الأسرة السورية باحترام، أبوان يعملان بجد لتنشئة أبنائهما على حب العلم والأخلاق والانتصار لعمل الأخير، كما قدم أنموذجاً من كيفية التعامل مع الأبناء في المشاكل التي يقعون فيها خصوصاً في سن المراهقة، أيضاً تقديم صورة الأم العاملة القادرة على التنسيق بين واجباتها المنزلية والعملية.

“مذكرات عائلة” من الأعمال الدرامية المحلية المتنوعة المضامين والدلالات، أيضاً طرحه للعديد من القضايا -بمختلف أنواعها-بقالب حياتي من لحم ودم كما يقال، قدم للجمهور المتعة والفائدة، فحفظته الذاكرة، وهاهم آباء وأمهات اليوم، يدعون أبناءهم لمتابعته بكل ثقة، فهو من المسلسلات التي تعود إلى الزمن الذي كانت فيه الدراما التلفزيونية دراما العائلة ككل، وكما جمعها مذكرات عائلة حول الشاشة منذ قرابة الربع قرن، ها هو يجمعها اليوم، في حال كانت الكهرباء متوفرة لهذا.

تمّام علي بركات