مجلة البعث الأسبوعية

الأغباني.. خيوط الذهب والفضة مطرزة بأنامل دمشقية

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

يجمع المؤرخون والباحثون على أن التجارب الأولى لصناعة النّسيج تمّت على أرض سورية، حيث عرفت هذه المنطقة الأصبغة الطبيعية وعملية تلوين الملابس منذ عصر الفينيقيين الذين، بدورهم، نقلوها من خلال تجارتهم إلى مختلف أنحاء العالم. وفي العهدين اليوناني والروماني، ذاع صيت المطرزات السورية بشكل كبير، حيث نقلها الصليبيون بعدئذ إلى أوروبا وإلى العديد من دول المعمورة.

نشأ فن صناعة الأغباني، ذلك القماش ذو اللون الأبيض والصوفي المطرز بخيوط الذهب والفضة، في مدينة دمشق قبل أكثر من 150 عاما، وقد اشتهرت به سورية في دمشق وحلب، ثم عرفته بقية المحافظات، وهو عبارة عن قماش خيوط من الحرير (سداء ولحمة) ويُطرز بعد حياكته بخيوط ذهبية أو فضية.

يوجد على هذا القماش رسوم مطبوعة بواسطة الكليشات الخشبية ولكل رسم أو تطريز اسم خاص به مثال: جوكلان – حب البندق – زهر الغريب – الوردة السباعية – الفلة.. إلخ، يُصنع منه أنواع القنابيز والعمائم والشراشف الفاخرة وحالياً يستعمل كأغطية لموائد الطعام والشاي وهو مرغوب جداً لدى السياحة. وقد كان قماش الأغباني يصنع قديماً من الحرير الطبيعي المتواجد بكثرة في سورية في ذلك الحين، أما في يومنا الحالي فيستخدم القطن السوري العالي الجودة في تصنيعه. يمر الأغباني بأربع مراحل حتى يصبح جاهزاً للبيع أو الاستخدام، وهي باختصار:

المرحلة الأولى يتم فيها طبع القماش بأشكال مختلفة ورسومات متعددة في ورشة الحرفي الذي هو في هذه المرحلة المسؤول عنها، وهذا يعتمد على ذوقه وخياله.

في المرحلة الثانية يتم تطريز القماش بخيوط الحرير، لكن هذه المرحلة تتم في منزل المرأة التي سوف تقوم بالتطريز باستخدام ماكينة الخياط خاصتها، بينما قديما كانت تتم بشكل يدوي وكانت تأخذ وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، ومع ذلك فإن هذه المرحلة تتطلب الصبر بشكل أساسي.

المرحلة الثالثة يتم من خلالها تنظيف وغسل القماش المطرز بالغسالة الكهربائية بينما قديماً أيضاً كانت تتم بشكل يدوي ثم يوضع القماش تحت أشعة الشمس ليجف.

المرحلة الرابعة والأخيرة يتم كي القماش الذي أصبح الآن أغباني وطيه بشكل مرتب وأنيق ليصبح جاهزاً للبيع في الأسواق التقليدية.

وقد كان قماش الأغباني يصنع قديماً من الحرير الطبيعي المتواجد بكثرة في سورية في ذلك الحين، أما في يومنا الحالي فيستخدم القطن السوري العالي الجودة في تصنيعه.

أما الحرفي السوري الذي يعمل بطبع “الأغباني” فيتميز بحس مرهف وخبرة عريقة متوارثة عبر الأجيال. وقد عُد هذا النوع من النسيج، الذي طرزت عليه “الإبر الدمشقية” آلاف الرسوم والأشكال، هدف الأغنياء والسائحين القادمين من كُل حدب وصوب، حيث أصبحت مسألة الحصول عليه تقتصر على بعض الشرائح الميسورة، وعلى المُغتربين الذّين يشترونه لمجرد التفاخر بوجود هكذا نوع من الصناعة.

ومنذ أكثر من خمسمئة عام، كان حرفيو “الأغباني” في دمشق يطبعون النسيج على الحجر والرمل. ومع تطور الزمن، أصبحوا يستخدمون النحاس على شكل قوالب وصولاً إلى قوالب الخشب. ورغم أن حرفة الأغباني تطورت كثيراً في السنوات الأخيرة، وأصبحت تنتج من خلال الكمبيوتر، وتعتمد على الآلات الحديثة والكاتالوغات الجديدة، إلا أن هذا التطور لم يستطع أن يلغي دور اليد العاملة أو التطريز اليدوي، لأن أية قطعة تُنتج يدوياً تُعتبر متميزة في الدقة والجودة والإتقان، الأمر الذي يدفع بالكثيرين إلى شراء النسيج الأغباني المُنتَج يدوياً. والأغباني اليدوي أي “شغل الإبرة” قريب من “الكانفا”، إلا أنه نافر أكثر وذو جودة أعلى. وهو يُصنع من الحرير الطبيعي والخيط المقصب. وتُعتمد هذه الحِرفة لتستكمل مقومات وجودها على عدة أنواع من الآلات والمُعدات، منها “الإصطمبا” والطاولة المستطيلة والفرشاة والطبق وقطعة من قماش الشاش الذي يُوضع فوق الطبق لامتصاص المادة الصباغية، وأخيراً القوالب الطباعية الأساسية. ولكل من هذه المعدات عملها الخاص. وتُقسم قوالب الطباعة الأساسية إلى أشكال ومُجسمات، وهي كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “الحنامة” و”أخو الحجب” و”السلطعان” و”سقف القاعة” و”العريشة” و”الفلة” و”دعسة الجمل” و”البقلاوة” و”عرق الورد” و”الفراشة” و”الشمعة” و”الأرزة”… إلخ.

كذلك الأمر بالنسبة للتّطريز، حيث يُعتمد على ثلاثة أنواع متنوعة، أولها “التطريز الطلس” ويُعنى به تطريز القطعة بالكامل ضمن رسم معين. وثانيها “التطريز الرش” ويُقصد به تطريز جانب من القطعة والحفاظ على الباقي بشكل سادة. وثالثها “التطريز النافر” وهو نوع من التطريز الخفيف المتموج والذي يعطي شكل الكريستال على القطعة، وهو من أجود أنواع التطريز. كما يوجد أيضاً، إضافة لما ذُكر، “التطريز الآلي” وهو عبارة عن حرير نباتي “صناعي” ذي تطريزة طامسة. ويمتاز كل نوع من التطريز بسمات وخصائص معينة، تناسب ماهية البلد وفنه وتراثه.

ومن باب الحداثة، دخل مؤخراً “الأغباني” برسومه وزخارفه في مجالات عدة واستخدامات متنوعة، كما أصبح يُصنع أحياناً حسب الطلب ووفق نماذج معينة، ويُسوّق محلياً وعربياً ودولياً ويكثر الطلب على الإنتاج اليدوي الذي يتميز بالجودة والمهارة والإتقان، شأنه في ذلك شأن الدامسكو والبروكار. وقد تضاءل عدد ورش وصناع هذه الحِرفة القديمة قدم الزمن وأصبحت نادرة، هذا إن لم توشك على الزوال، وذلك بسبب التكلفة العالية لعملية التصنيع اليدوية وعدم مقدرة غالبية الناس، بمُختلف شرائحهم على شراء واقتناء هذا النوع من النسيج الذي يُعتبر، وما يزال، رمز الأصالة والتراث والفولكلور.