ثقافةصحيفة البعث

“الدراماتورجية” بين النص والعرض

يكمن الفرق الأهم بين النصوص المسرحية التي كُتبت بقصد النشر، وتلك التي تم الاشتغال على كتابتها بقصد العرض، أو ما يُعرف بـ”الكتابة للخشبة”، في كون النوع الثاني من الكتابة، تحضر فيه وفي مختلف مراحل كتابته على الورق أو الخشبة ما يسمى في علوم المسرح بـ”الدراماتورجية”.

أحد أهم كُتاب هذا النوع من العروض المسرحية التي تُكتب نصوصها للخشبة، هو المسرحي الألماني “برتولد بريخت”-1898-1956- صاحب مفهوم أو مدرسة “كسر الإيهام” في المسرح، ولعمله الإبداعي الذي يعتمد في جوهره على فلسفة الفن، دوره المهم والحاسم في تظهير هذا النوع من الكتابة المسرحية للخشبة، رغم أنها ظهرت مع مسرحيين أقدم منه وبقرون، منهم شكسبير وموليير، والأخير كتب أهم أعماله حيث كان ينصب مسرحه، ومن المكان والأشخاص والأحداث التي تحيط به-المعين الخصب لأي كاتب- كان ينهل ما يكتب ليعرض على الخشبة، فعملياً ظهرت الدراماتورجية في الدراما المسرحية، قبل أن تظهر مفرداتها أو أن يكون لها تعريفاً واضحاً ومحدداً حسب المعايير التي يخضع لها أي مصطلح –من أُصطلح عليه- لتكون كذلك، لكنها لم تظهر كمفهوم أو رؤية مستقلة لها شروطها إلا فيما بعد. لكن ما هذه الدراماتورجية تلك التي نقرأها في العديد من المقالات النقدية المختصة بالمسرح، بغير توضيح لمعناها ولفعلها وأثرها على النص المسرحي؟

يُفرّق القاموس المسرحي بين عدة معاني للدراماتورجية، منها: “فن تأليف المسرحيات” وهو الأقدم أو الكلاسيكي، وهذا المعنى يربط الكلمة مباشرة بعملية كتابة النص المسرحي، المعنى الثاني هو المعنى “البريشتي” والذي يربط الكلمة بالعمل المسرحي ككل، أما المعنى الثالث فيميز بين نشاطين مختلفين وتعني عملاً غير الكاتب أو المؤلف المسرحي، ففي الأصل كلمة “دراماتورج” باليونانية ثم في اللاتينية تعني فعل تأليف أو كتابة أو صناعة المسرحية، ثم تحولت لتصبح اسماً دالاً على من يؤلف المسرحية، ومع انتشار المدلول الألماني، صارت تعني المشاور الأدبي والمسرحي المرتبط بفرقة مسرحية ما، ليصبح الدراماتورج في هذه الحالة هو المسؤول عن تجهيز العرض المسرحي من الناحية الأدبية والتقنية.

المعاني المختلفة لهذا المصطلح تُظهر أنه ليس جديداً، وتطوره لم يزل مرتبطاً بالتطور التاريخي للمسرح، وكذلك بتطور علاقة المسرح بالمؤسسة والايديولوجيا من جهة، وبتطور علاقة المسرح بصانعيه من جهة أخرى، ويمكن ربط هذا التطور بظاهرتين أساسيتين، أولها: ظهور المخرج بشكل مستقل عن الكاتب في القرن التاسع عشر، عندما انتقل الثقل في العمل المسرحي من الكاتب إلى المخرج، أما الثانية فتتمثل بتحرر الكتابة المسرحية من التقاليد والأعراف التي حكمتها طويلاً.

إن المفهوم الحديث لكلمة دراماتورجية هو دون ريب مرتبط بحدث لا يقل أهمية عن مسألة تطور الكتابة، ألا وهو دخول الإخراج على العملية المسرحية، وما يستتبع ذلك من تحديد ضمن رؤية المخرج. فالدراماتورجية ظهرت وتبلورت بداية في ألمانيا لأسباب تاريخية تتعلق بوضع المسرح الألماني في القرن الثامن عشر، ونحن منذ ذاك الحين نعيش الحقبة “الدراماتورجية” ويُعتبر “لسينغ” بهذا الخصوص أول دراماتورج بالمعنى الحديث للكلمة، كما كان “غوتة” دراماتورجياً في نصوصه حول الشعر الملحمي والشعر الدرامي، وفي التساؤلات التي طرحها في نصه حول المسرح وحول الممثل، تم فتح الطريق أمام إعادة النظر في المفاهيم المسرحية، المتعلقة منها بالعرض المسرحي وشكل أدائه، وكان أمراً منتظراً نتيجة للانفتاح الثقافي بين دول أوروبا، بيد أنه من الناحية العملية بقي التعرف على الدراماتورجية بمعناها الحديث، مرتبطاً باكتشاف “بريخت” خاصة بأسلوب عمله في تحضير عرض مسرحي فهو الذي أعطى الدراماتورجية الحديثة معناها، وفي صلب عمل بريخت تكمن العلاقة الصميمة والضرورية ما بين الكتابة والإخراج مروراً بالدراماتورجية؛ إن بريخت عندما طرح منهجه قياساً إلى أرسطو ثم لسينغ، إنما طرح الموضوع الأساسي الذي تساقط وأُهمل مع الزمن، ألا وهو المهمة الاجتماعية للمسرح، وكذلك موضوع تأثير المسرح في الجمهور في ظرف اجتماعي تاريخي محدد، وبعد أن اتسع مجال الكلمة صار بالإمكان الحديث عن دراماتورجية النص، دراماتورجية العرض، وكذلك عن دراماتورجية العلبة الإيطالية، دراماتورجية الإيهام، دراماتورجية كسر الإيهام أو تؤدي إلى التغريب، وإذا كان التحليل الدراماتورجي يشكل مرحلة مهمة من مراحل إعداد العرض المسرحي ونقطة انطلاقه، فإن الأمر يثير من الناحية النظرية والعملية العديد من التساؤلات، ومنها: هل دخول التحليل الدراماتورجي على عملية تحضير العرض يعني فرض سيرورة إبداعية مازالت حتى الآن تُعتبر مجالاً فنياً بحتاً، نابعاً من الحدس والإحساس أكثر من أي شيء آخر؟

اليوم لم يعد الترابط بين شكل كتابة النص وأسلوب العرض أمراً مفروغاً منه، فنوعية النص أو ارتباطه بنوع أو شكل مسرحي، لا تفترض بالضرورة بقاءه على نفس الصيغة بالعرض المسرحي، فالكاتب أساساً لم يعد يكتب بناء على نموذج عرض، ولم يعد الإخراج أو نقل النص إلى عرض يتحقق بناء على نموذج عرض موجود سلفاً، وكل عملية إخراج للنص هي الآن حالة متفردة، مهمتها الإبداعية تكمن في تحديد علاقتها بالنص، خصوصاً في زمن تلاشت فيه سيادة قواعد الكتابة وبرزت أهمية العمل الدراماتورجي المبني على معرفة صحيحة بظروف كتابة النص الذي يقع عليه الاختيار ليصبح عرضاً مسرحياً، يخضع للعملية الدرامتورجية كجزء طبيعي وفعلي في الفعل المسرحي، وذلك وفقاً للمعرفة بطبيعة الجمهور والزمكان والمراد قوله في العمل المسرحي، سواء عن طريق الحوار، أو الأداء الحركي الذي يحقق صلة الربط الأولى بين الجمهور والخشبة بما يجري عليها، ويمكن القول: إن المسرح الحديث شهد تغيراً كبيراً في ماهية الكتابة المسرحية من النموذج، وصار الكاتب أو المُعدّ حراً في صياغة فكرته في أي قالب يريد، ولم يعد معنياً بالعرف أو التقليد إلا بقدر محدد، كما أن إمكانيات تحقيق نص بتحويله إلى عرض قد ازدادت كثيراً نتيجة لدخول التقنيات الحديثة على المسرح، وهنا تبرز تماماً أهمية العملية الدراماتورجية أو مسوغها الأساسي، وهو بناء علاقة متفردة ومقنعة ما بين نص وعرض أو حتى ما بين نص أساسي ونص مُعد.

تمّام علي بركات