مجلة البعث الأسبوعية

أمجد الغازي “ابنُ الفُرات الجميل”.. عاشق اللوحة البيضاء والأسطوري في ضربات ريشته المعدنية

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

 

“أسمر يا أسمراني!”

كان مرسم الأستاذ الفنان سرور علواني على موعد في ليلة رأس السنة، من العام 1998، مع لقاء فيه الكثير من نصاعة بياض الثلج المنهمر برقصات رتيبة، وبياض قلوب زوار المكان. لفت انتباهي، وأنا التلميذ الأصغر بين الحضور جميعاً، أن هناك شاباً أسمر يحمل من الطيبة والألق ما يحمله الحب نفسه حين يتلألأ في قلوب سامعيه؛ كانت اللكنة الديرية المحببة تفوح مع رائحة الشاي من أصابعه، وهو يرتشف بنهم من قدحه، ويسامر الجميع بظرف ونبل، حتى انقضت السهرة الفنية، وقررنا العودة لبيوتنا، فكان طريقي يتقاطع في محطته الأخيرة بطريق الفنان الأسمر الجميل، أمجد الغازي – الموقف الأول في الحياة العملية والاجتماعية كانت لما رآني متردداً في دفع أجرة السيارة، وأخجل أن أبادره، فقال لي مشجعاً: سأقبل أن تدفعها لتعبر عن كرمك، واعتبرها ديناً سنرده يوماً لك، أيها الفنان المنتسب حديثاً لدرب “أسامة”..

أخرجت من محفظتي النقود بفرح، ودفعت أجرة السيارة، ونزلنا نتمشى في طريق أبيض ترصفه شرائح الثلج الحانية. كان أمجد الغازي – والكل يعرف ذلك – فناناً ثرياً بثقافته الفنية، ورقي كلماته المنتقاة، وبتهذيبه المنقطع النظير؛ يأخذك في بضع دقائق إلى عوالم سحرية من الفن والتنظير الفني الراقي؛ ولا ريب أن هذه الثقافة هي أحد أهم أسباب تلك المسحة الأسطورية في ضربات ريشته المعدنية. كانت لوحاته، وهي خام قبل أن تدخل مراحل الفرز والطباعة، أهم برأيي من الكثير من المدارس الفنية التي تنتهج فن الطفولة؛ وكان أستاذنا المشترك سرور علواني يقول لي: “تعلّم من أمجد طريقة إمساك الريشة، وطريقة عشق اللوحة البيضاء، قبل أن تبوح بألوانك لها بعشقك”.

تكررت اللقاءات في مبنى المجلة الغالية على قلبينا، “أسامة”، وكنت أستزيد من أمجد فناً ونبلاً وشهامة في كل لقاء، أكثر فأكثر؛ ثم تباعدت الأزمنة بيننا، حتى تسلمت دفة الإشراف الفني لمجلة “أسامة”، فكان أن طلبت مني رئيسة التحرير السابقة، العزيزة ريم محمود، أن أتواصل مع كل من كان له أثر في المجلة فنياً؛ وكانت رسالتي الحميمية، الأكثر دفئاً، هي رسالتي لأمجد الذي كان حينها في ريف مدينته، دير الزور، يعايش فترة من أشد الفترات صعوبة وقسوة عليه، كفنان، لدرجة أنه طلب مني أن تكون رسائلي فيها تشفير معين، بحيث لا أذكر أن مجلة “أسامة” تابعة لوزارة الثقافة، واكتفي بالترميز في طلباتي!

غامر بالكثير من روحه وتفاصيل حياته، وراح يرسم لنا بشغف الطفولة الخاص به – وهو محاط بظلام كبير وظلم مدقع في الوجع – حتى جاءت لحظة وجدانية عالية، حين قال لي بأنه استطاع الولوج مع عائلته من سم الإبرة، والخروج من بين ظهراني الذين كانوا سيحاكمونه لو وجدوه في مقهى الإنترنت يرسم أو يستمع للموسيقى.. كانت مبادرة هيئة التحرير في مجلة “أسامة”، يومها، أن نتشرف جميعاً بقبول أمجد الغازي، الفنان الأستاذ، عضواً فاعلاً في هيئة التحرير الفنية للمجلة، وعادت اللقاءات بيننا لتثمر حباً وعبقاً وفناً، و”شاي خمير معتّق”.

 

في حضرة الأسمراني.. لا وداع!!

جاءني يوماً لمقر المجلة، وهو يحمل التحاليل الطبية في ظرف أصفر باهت كلون وجهه الغريب، وقال لي: “لقد شخصوا لي مرضاً عضالاً في الرئتين والكبد، وأنا ما زال لدي الكثير لأقوله في هذه الحياة، وما زال ولداي صغيران بحاجة لرعايتي”.. منذ تلك اللحظة، بات أمجد الغازي يذوي أمام أعيننا كشمعة تشع بالابتسامة، وتضيء قلوبنا بظرفه ونبله، وشمعه يذوب معلناً قرب الوداع.

في زيارة له لمكتبتي الصغيرة في منطقة الحلبوني، انهارت قواه فجأة، وهو يقف أمامي نتحدث، مستنداً إلى كتف النبيلة الراقية، زوجه “أم أحمد”. أوصلته لسيارة الأجرة، وهو يستند بكلتا ذراعيه بيني وبينها؛ يومها عرفت معنى كلام الشعراء والأدباء عن سقوط قلب الأنثى بكبرياء فوق جسد من تهوى.. كانت دموع عينيها، وهي تلهج له بالدعاء “سلامة قلبك يا سندي”، تعتصر قلبي وقلب دمشق كلها.. وتهافتت قلوب المحبين تتصل بي للاطمئنان على حال أمجد، وكان أكثرها لهفة وحناناً قلب أستاذنا، سرور علواني، الذي كان يتواصل معي بشكل يومي، ليطمئن على احتياجات عائلته واحتياجاته الطبية؛ وكان الفنانان فادي الفرج وغسان عكل أكثرنا في الوسط التشكيلي رعاية له، وعناية بعائلته الصغيرة، ومتابعة لأمور علاجه.. بعد أيام اتصلت بي أم أحمد، من هاتفه الجوال، وأخبرتني أن أمجد دخل المشفى، ويريد أن يراني.. حملت أشواق كل المحبين، ومنهم الغالي رئيس تحرير المجلة، الشاعر قحطان بيرقدار، الذي قام بمبادرة نبيلة، فجمع المبالغ المالية المستحقة للفنان أمجد، من منشورات الطفل، والمجلة، وعلى مسؤوليته الخاصة، وسلمني إياها مع رسالة محبة لأمجد وأهله.

حين دخلت إليه في المشفى، تحامل على آلامه، وجلس مبتسماً، وراح يكلمني ويوزع الابتسامات علينا جميعاً؛ وحين سلمته المبلغ المالي، وأخبرته بتفاصيله، ابتسم، وحمل من وسط النقود قطعة ورقية من فئة الألف ليرة، وقال لي: “هذا دينك القديم، هل تذكره يوم الثلج؟ ارجع بتكسي بلا شنططة السرافيس”!! وضحكنا ملء القلوب، القلوب التي بكته بعد ثلاثة أيام من زيارتي الأخيرة له، حين أغمض جفنيه تاركاً ريشته يتيمة، ومرسمه الخشبي، وولديه الصغيرين.

 

دار “أسامة” تودع فارسها الأسمر

قام العزيز قحطان بيرقدار بمبادرة نعي الفنان أمجد الغازي، من خلال تخصيص عدد خاص بأعمال الراحل، لتليق كلماتنا وألواننا بألوانه ولوحاته ومدرسته النبيلة العزيزة في “أسامة”؛ واستقبلنا زوجته وطفليه، فيما بعد، بمبادرة خاصة من هيئة التحرير، وسلمناهم مجموعة من إصدارات المجلة التي تحتوي على رسوم الراحل الجميل.. كان فرح طفليه بقراءة اسم والدهما لا يعادله ثمن في عيوننا.

كتبت وقحطان بيرقدار في العدد الخاص بالفنان أمجد الغازي، “الأصيل ابن الفرات الجميل”، هذه الكلمات: في غمرة الشّوق إلى هطول سحابات الخير فوق نهر الفُرات، مالت سنبلةُ قمح لترشفَ من مائه رشفةً، وتهمس عبر صفحات “أسامة” بأنّها رافقت صديق طفولتها الجميل، ورفيق أهدابها الشُّقر، الفنّان الأصيل أمجد الغازي، وأنّهُ كان صبيّاً جميلاً بلون حنطتها، يداعبُ ماءَ الفرات بيده، ويلاعبُ الخيال ألواناً ومواويل.. رحلَ الأصيل الّذي يعرفه الجميعُ بأبي الطّيبة، ودماثة الخُلق، غادر مقرّ مجلّته الحبيبة “أسامة” مع آخر رشفات الشّاي الأحمر الّذي أحبَّه، ومع آخر لوحاته الّتي أبدعها (رسوم سيناريو أجمل سور للمدرسة، المنشور في العدد 768 أيّار 2017). أمجد الغازي كان يرسمنا، ويرسمُ أحلامَنا في “أسامة”، واليومَ غادَرَنا ليسكن تلك الأحلام.. وداعاً يا أنيقَ الرِّيشة! يا طَيِّب الأخلاق!.

 

بطــــــــــــاقــــــــــــة شخصيّـــــــــــــــة

أمجد الغازي من مواليد دير الزّور، عام 1964. عضو فرع دير الزّور لاتّحاد الفنّانين التّشكيليّين. تخرّج من كُلّيّة الفنون الجميلة بدمشق/ قسم العمارة الدّاخلية، عام 1997. شارك في الكثير من الأعمال الفنّيّة المُوجَّهة إلى الأطفال، وكان أميزها ما قدَّمَهُ لمجلّة “أسامة” المُحبَّبة إلى قلبه. عمل مُخرجاً فنّيّاً لمجلّة “الجنديّ العربيّ”’، بين عامَيْ 1992 و1993. شارك في المعارض التّشكيليّة الّتي أقامها اتّحاد الفنّانين التّشكيليّين في دير الزّور، إضافة إلى المشاركة بمعارض أخرى منها: المعرض السَّابع عشر لطلبة مركز الفنون التّشكيليّة بدرعا، عام 1982، ومعرض جماعيّ في صالة الفارس الذّهبيّ للفنون الجميلة بدمشق، عام 1994.

تُوفّي في 21 أيّار 2017.