دراساتصحيفة البعث

نهاية الطاغوت الأمريكي

د. رحيم هادي الشمخي

كاتب عراقي

 لو كان كريستوفر كولومبس يعلم أن اكتشافه للقارة الجديدة سيحمل معه إلى آفاق رحبة أحلام عشرات الملايين من البشر، فربما كان قد ادخر ما بقي من عمره في اكتشافات جديدة تخلده قبل أن تخلد أرض الأحلام. الهجرة إلى القارة الجديدة حلم طالما داعب خيالات الملايين من فقراء العالم في أوروبا وآسيا وأفريقيا، إضافة إلى عصابات المافيا والمتمردين على أنظمتهم والباحثين والمبعدين والمجرمين.

ولو أن كولومبس كان يعلم أن اكتشافه لقارة الأحلام سيحمل معه الإثم والعدوان والجريمة والكابوس في الداخل والخارج فربما كان قد عدّل عن رحلته وفضّل عليها صيد السمك على شواطئ إسبانيا.

فالجرائم الأمريكية تمتد من لوس أنجلوس إلى شوارع نيويورك، وملايين الأسلحة بأيدي الأفراد، إلى (بطولات) وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في أفريقيا والآلاف من حالات الاغتصاب السنوية، إلى أطنان من النابالم فوق العراقيين والليبيين وقبلهما الفيتناميين، ثم المؤامرة على سورية وشعبها العظيم، والتصنت على ملايين المكالمات الهاتفية، إلى تصفية الحسابات فوق أراضي الغير في بنما ولبنان والصومال وألمانيا وكوبا ونيكاراغوا.

أمريكا هي الجحيم والجنة، الألم واللذة، الكابوس والحلم، وهي الغول الذي يدّعي أنه يستقلبك بالأحضان والقبلات، والكارت الأخضر (غرين كارت) وصور مادونا، وحفلات مايكل جاكسون قبل اغتصابه الأطفال، وأطفال روك هدسون قبل موته بالإيدز. إن هذه الصور القاتمة الحالكة لا تطرق عقول الكثيرين من الذين يتزاحمون على أبواب السفارات الأمريكية أمثال آل سعود وقطر وأمراء البترو-دولار، أو الذين تقتنصهم بعض الجمعيات الموجهة من المخابرات الأمريكية التي تنتشر في بعض العواصم العربية أو الأجنبية بحجة تخليصهم من مآسيهم في أوطانهم، ليروا في أمريكا جنة الخلود المنشود والحلم الذي يراودهم حتى في الصحو، بل إنها المستقبل الوردي والثراء (وفق سياسة حرق المراحل)، وجواز المرور الذي تنكسر أمامه كل الحواجز، ولكن ما هي حقيقة أمريكا؟.

تشارلز كودراد، رجل مقعد يبلغ الخامسة والأربعين عاماً من عمره، يسكن نيويورك، عاد إلى منزله ليجد أمامه ثلاثة شبان في عمر المراهقة كانوا على وشك الانتهاء من سرقة مسكنه. الشباب الثلاثة سرعان ما أمسكوه وأوقفوه ثم بدؤوا يتلذذون طوال الليل بإذاقته أنواع التعذيب، حتى إنه طلب منهم أن يقتلوه رحمه به، لكنهم لم يكترثوا ثم قاموا بطهو بعض الطعام، وأكلوا بشهية منقطعة النظير، وهم يستمعون إلى صرخاته الموجعة، وبعد أن امتلأت بطونهم عادوا إلى الدورة الثانية من التعذيب حتى الصباح.

هسلتون بيرتس، طفلة أمريكية جميلة في العاشرة من عمرها كانت تعاني لسبب ما من مشكلة سخرية زملائها وزميلاتها في المدرسة، وفي أوائل أيلول عام 2014، كما تقول صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر يوم 3 أيلول: “إن هذه الطالبة ذهبت إلى المدرسة وقد حملت مسدس والدها ثم مرت على صديقتها (12 عاماً) فاصطحبتها للتربص بزميل لهما لقتله ولما رأينه حاولت هسلتون إطلاق النار عليه فأخرج مسدسه هو الآخر (14 عاماً) فخافت الطفلتان ثم انطلقتا مع ثالثة تبلغ الرابعة عشرة من ربيعها، وفي ركن بعيد بدأت الفتيات الثلاث لعب الروليت الروسية، أكبرهن وجهت المسدس إلى رأس الصغيرة (هسلتون) وضغطت على الزناد مرتين فلم تنطلق، أي الرصاصة، وهن يتضاحكن ويتغامزن فرحاً بالروليت الروسية، ثم تحركت إحداهن لتضغط على الزناد وتطلق رصاصة على رأس الطفلة (هسلتون) لتقتلها ليصبح تسلسلها (145) ضمن الضحايا التي تُقتل في مدينة شيكاغو خلال عام 2014، هذه بعض من آلاف النماذج لحوارات القتلى والجرائم التي ترتكب يومياً في أمريكا.

إن هذه الحوادث وغيرها استقطبت اهتمام الأوساط العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي تموز عام 2015، كما ورد على لسان جامعة هارفرد دراسة مهمة عن الجريمة والأطفال ومستقبل أمريكا، أشارت فيه إلى أن 95% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاماً لديهم الإمكانية في استعمال سلاح ناري قبل بلوغ سن الرشد في أي وقت، وأكثر من ثلثي هؤلاء الأطفال يتوقعون أن يصيبهم طلق ناري، مليون أمريكي ما بين 12 و19 عاماً يتعرضون سنوياً للاغتصاب أو اعتداء جسدي أو سرقة بالإكراه، ومعظم هذه الحالات تحدث من أطفال أو شباب آخرين، وما بين 2014 و2017 زادت نسبة الجريمة لدى المراهقين إلى 85%، وثلاثون في المئة من حوادث القتل في أمريكا يرتكبها شباب لم يبلغوا سن الرشد بعد، أما العنف فهو العامل الآخر الذي يعيش ويموت به أيضاً الأمريكي.. أينما ولى الطفل وجهه فسيجد العنف بكل بشاعته، في الرسوم المتحركة والكتب والسينما والفيديو والتلفزيون، في الشارع والمدرسة والبيت، وحتى في الرياضة، فالعرض البطيء لصورة هوكي الجليد (الآيس هوكي) والمصارعة الحرة أشياء لا غنى عنها كي يتلذذ بها الأمريكي وهو يجلس أمام التلفزيون ويلتهم سندويش الهامبرغر.

لقد أضحى عادياً أن يحمل الكثيرون من طلاب الجامعات الأمريكية سلاحهم الذي قد يكون مسدساً أو سكيناً حاداً، إن لم يكن لحمايته فعلى الأقل لإقناع الآخرين بوجهة نظره، وفي تقرير آخر أعدّه معهد “شباب الشرطة” في مدينة واشنطن أكد فيه أن أكثر من ألفي تلميذ في الولايات المتحدة الأمريكية كلّها يتعرضون كل ساعة تقريباً لحوادث مما يطلق عليه اسم “الجريمة الصغيرة” أي بمعدل جريمة واحدة كل ست ثواني، أما الذين أتيحت لهم فرصة زيارة محكمة (جوفتيل) والسجن الملحق بها سيصدمهم الحلم الأمريكي الذي تحوّل إلى كابوس مزعج في الزنزانات المقابلة لصالات المحاكمة أكثر من خمسمئة طفل تتراوح أعمارهم ما بين 10 إلى 15 يجلسون في صفوف متلاصقة، وفي مجمعات مقيدة بسلاسل كما كان الآباء والأجداد يقيدون الأفارقة قبل وشحنهم إلى العالم الجديد، بعض الأطفال ينتظر دوره شهوراً طويلاً، فهؤلاء لن يسأل عنهم أحد، ولن يجدوا صدور أمهات أو آباء مفتوحة لهم.

هذه صور غير مفصّلة عن قرب انتهاء حلم الهجرة على الرغم من قوة الوهم الذي خلقته أوضاع مزرية في العالم الثالث، سواء كانت من وضع أبنائه أو من وضع أمريكا والغرب، وهكذا نجد أن المجتمع الأمريكي ينحدر في طريق السقوط لأنه حمل هذه البذرة سواء جاءت مع العبيد الذين جلبهم للسخرة أو مع استعراض الكاوبوي، هذه الفوضى التي جبت كل القيم، إن كانت هناك قيم حقا.  إنها صورة جديدة، صورة المواطن الذي يستمع إلى نصائح الشرطة بأن لا يفتح باب مسكنه لأحد بعد الثامنة مساء، وهي صورة المواطن الذي لا يدري إن كان سيصل إلى بيته أم لا، إنها أمريكا، حيث يستقر فيها مقر الأمم المتحدة وأكبر القواعد الفضائية وآلاف الرؤوس النووية، إنها السيد الذي يريد أن يقول للعالم إنه مصدر الظلم والعدل، الفقر والغنى، الحرب والسلام، الاستقرار والخوف، الهلع والأمن.