ثقافةصحيفة البعث

تمكين اللغة العربية بين الواقع والمأمول

تعد سورية من أكثر البلاد العربية حرصاً على اللغة العربية الفصحى لإيمانها بأن اللغة هي الأساس الصلب الذي ترتكز عليه أية أمة، فهي الهوية الثقافية التي تميزها عن غيرها من الأمم، وهي الحاضن الأساسي لوجودها. وأمام إغفال دول كثيرة لأهمية اللغة العربية، وتخليها عن سلامتها، غدت اللغات الأجنبية الأكثر رواجاً في تلك الدول وفق مفهوم خاطئ وهو أن هذه اللغات سمة التطور والحداثة، فبدأت تنحسر اللغة العربية في ثقافتنا العربية، وغدا خريجو جامعات هذه الدول عاجزين عن مواكبة الفصحى، فغلبت اللهجات العامية على مصادر الثقافة المختلفة.

وبتوجيه من السيد الرئيس بشار الأسد، صدر القرار الجمهوري رقم 4 لعام 2007 بتشكيل لجنة مركزية تنحصر مهمتها في تمكين اللغة العربية، وتم تشكيل لجان فرعية في جميع المحافظات لتقوم بدورها في تمكين اللغة من خلال وضع خطة عمل سنوية تعمل على تنفيذها، كما أصدرت رئاسة مجلس الوزراء تعاميم على الوزارات كلها بإيلاء اللغة الفصحى المكانة التي تستحق، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المقام: هل أنجزت هذه اللجنة ما تطمح إليه؟.

إن نظرة سريعة على حال اللغة العربية الفصحى اليوم تجيب عن هذا السؤال المشروع بوضوح، وتقول: “لا” بملء فيها، فعناوين كثير من المحال التجارية والسياحية والفنية وغيرها مازالت غير عربية، وصفحات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) و(الواتس) مازالت تضج بالعامية وبالأخطاء النحوية والإملائية، ومازال الكثير من الأساتذة يقدمون محاضراتهم لطلابهم بالعامية، ومازالت بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تستخدم العامية، ليس في الإعلانات فحسب، بل في عناوين بعض برامجها، وفي الحوارات التي تقدمها، وترى المذيع يرفع المفعول وينصب الاسم المجرور من دون أن يرف له جفن، والأنكى من ذلك أولئك الذين يشاركون في المنتديات الثقافية بوصفهم شعراء وأدباء، واللغة العربية الفصحى منهم براء، فنراهم يلحنون والجمهور يصفق لهم، بل بعضهم يدعون إلى الشعر المحكي، لأنه الأقرب إلى النفس، ومما يزيد الحال سوءاً حين ترى أستاذاً يتقدم إلى مسابقة للتدريس وهو لا يستطيع أن يكتب عشر كلمات صحيحة، وطالباً في السنة الثالثة في قسم اللغة العربية لا يستطيع أن يعدد الحروف اللثوية، وآخر أعرب كلمة بعيداً، فكتب: (الباء حرف جر، وعيداً اسم مجرور بالباء)، وآخر في القسم نفسه قسّم اسم الفاعل (مُشْتَكٍ) إلى ثلاثة أقسام: مُشْ: فعل ماض، وجعل التاء والكاف ضميرين متصلين!.. فما السبب الذي أوصلنا إلى هذه النتيجة؟.

أرى أن السبب يكمن في أمرين أساسيين: أولهما فتور الحماس عند بعض القائمين على هذه اللجان، وثانيهما البيروقراطية التي حكمت هذه اللجان، واستخلصت ذلك من حديث صديق لي كان عضواً في واحدة من هذه اللجان الفرعية مدة ثماني سنوات، وحينما سألته عن واقع اللغة العربية بعد التمكين قال: عقدنا أكثر من ثمانين اجتماعاً، كان الموضوع الأول في جدول أعمال جل اجتماعاتنا الأسماء الأجنبية لعناوين المحال التجارية التي لم يُغيّر منها إلا القليل بسبب قصور بعض القوانين التي تلزم هذه المحال بتغيير العنوان، ومازال كثير من هذه المحال بأسمائها الأجنبية، بل قام بعض أصحابها بالمراوغة في تنفيذ ذلك، فوضع الاسم الأجنبي بخط كبير، ووضع الاسم العربي بخط لا يكاد يقرأ.

وثمة أمر آخر أضعف هذه اللجان، إذ ضمت ممثّلين عن جميع القطاعات الإدارية، وكان بعض هؤلاء الممثّلين على غير دراية بقواعد اللغة العربية، وكانت العامية هي التي تسود هذه الاجتماعات بحجة أن كثيراً منهم لا يتقن الفصحى، فكيف ننافح عن لغتنا إن كنا عاجزين عن التحدث بها بطلاقة من دون لحن.

في كل عام يقام احتفالان للغة العربية: الأول في يوم اللغة الأم، والآخر في يوم اللغة العربية، وكان بعض المتحدثين في هذه الاحتفاليات يرفع وينصب ويجر كما يحلو له.

لا شك أن هناك من كان يعمل بكل قناعة ويبذل ما يستطيع، ولكن اليد الواحدة لا تصفق.

وأردف قائلاً: أذكر أني دعيت إلى مديرية التربية لإلقاء محاضرة في يوم اللغة العربية، وكان المأمول أن تكون هذه المحاضرة موجهة إلى موجهي اللغة العربية ومدرّسيها ولبعض الموظفين الإداريين، وحينما عجز من هيأ هذه المحاضرة عن جمع الموجهين والمدرّسين جمع عدداً من مستخدمي المديرية والسائقين، وكان عدد الحاضرين لا يتجاوز عدد أصابع اليدين!.

كنا في اجتماعاتنا نتحدث كثيراً عن الأخطاء الشائعة التي تعج بها وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، فتم الاتفاق مع إحدى الصحف المحلية الرسمية على إعداد زاوية ننبه فيها على خطأ واحد كل يوم، وبعد أن نشرت الصحيفة عدداً من الأخطاء فوجئت بعدها بإلغاء الزاوية في أحد الأعداد بسبب صورة احتلت مساحة الزاوية، وحينما سألت عن السبب قالوا: إن مخرج العدد ألغى الزاوية اليوم كيلا يشوّه الصورة، وبعدها أصبحت هذه الزاوية تظهر يوماً وتغيب أياماً، فاعتذرت عن المتابعة.

وتم الاتفاق أيضاً مع إحدى الإذاعات المحلية على إعداد برنامج ينبه على هذه الأخطاء، فأعددت أكثر من مئتين وتسعين حلقة، في كل واحدة أنبّه على واحد من هذه الأخطاء الشائعة، إلى أن فوجئت بأن الإذاعة عينها تبث قبل موعد الحلقة مباشرة إعلاناً بالعامية، وحينما عبّرت عن استغرابي سوّغ القائمون على الإذاعة ذلك بأن صاحب الإعلان يريد ذلك، لأن اللغة الفصحى جادة وغير موسيقية، ولا تؤدي الغرض المطلوب من الإعلان!.

إن هذه الأمور تبيّن بجلاء فتور الحماس عند كثير من محبّي اللغة العربية، وتبيّن السبب الذي منع  لجان التمكين من تحقيق الأهداف التي عملوا على تحقيقها، هي صرخة عسى أن تصل إلى القائمين على لجان التمكين ليعود إلى العربية بريقها.

أ. د عصام الكوسى