الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

انتحال صفة

د. نضال الصالح

الانتحال، لغة، مصدر الفعل الثلاثي المزيد بحرفين نحَلَ بمعنى نسبَ شيئاً إلى نفسه، ومفرده، حسب لسان العرب، النحلة بكسر النون. وحسب اللسان نفسه قول ابن منظور: “وانتحل فلانٌ شعر فلان إذا ادّعاه أنه قائله، وتنحّله: ادعاه وهو لغيره”، والانتحال، مصطلحاً، أن ينسب أحد لنفسه صفة ليست له أو منه، وهو فعل دفعَ المشرّع، في مختلف القوانين، إلى عدّه جرماً يستدعي العقاب، ومن تلك القوانين ما نصّت المادة الثانية والثمانون بعد الثلاثمئة من قانون العقوبات السوري عليه بشكل واضح على الرغم من تضييقها فعل الانتحال بوظيفة عامة، عسكرية أو مدنية.

ليس الانتحال صفة خاصة بما هو وظيفيّ، بل تتجاوز ذلك إلى غير شأن في الواقع حتى تكاد تطوي تحت معطفها ما قد يبلغ أو يتجاوز ألف شأن وشأن من ثياب الواقع المختلطة بغير رقعة ولون، وحتى تكاد تكون دالاً بنفسها، وكافية وحدها أحياناً، على ما يعني خراباً هنا وآخر هناك في المجتمعات المحكومة بالعطالة والثبات على غير مستوى. ومن اللافت للنظر أنّ المشرّع، السوريّ على الأقلّ، وباستثناءات تكاد لا تُرى، لم يضع القوانين التي تلجم صخب هذه الظاهرة في غير مجال، في الإعلام والثقافة والاقتصاد والسياسة، والتي تمثّل فاعلاً بامتياز في تدمير المجتمع لأنها تمكّن للزيف من أن يكون له حضوره على حساب الحقيقة من جهة، ولأنها تدفع بهذه الأخيرة، الحقيقة، إلى الوقوف على رأسها بدلاً من الوقوف على قدميها من جهة ثانية.

أفليس من انتحال الصفة التي يجب أن يعاقب عليها القانون أن يسبق أحدهم اسمه بحرف الدال ولم تقم الجهات العلمية المختصة بتعديل شهادته، أو أنّ هذه الأخيرة تمّ تعديلها لاعتبارات غير علمية، أو أن يكون اشترى الشهادة بحفنة من المال، أو أنّ آخر كتب له المادة العلمية اللازمة للحصول عليها أو لاستكمال الحصول عليها؟ أوليس منه أن يكون أحد معلّماً أو مدرّساً أو أستاذاً جامعياً، وأوّل صفة له أن يكون مثلاً وقدوة وهو يحتاج إلى تأهيل في غير شأن، ولا سيما ما يعني هذه الصفة، المثل والقدوة؟ أفليس من انتحال الصفة: التعالمُ، والتفاصح، والتفاضل (ادعاء الفضيلة)، وسوى ذلك ممّا ليس حقيقة في الواقع؟ أوليس منه أن يعرّف أحد بنفسه بأنه مختص في علم الجمال وما مِن شهادة علمية له في هذا الشأن؟ وأليس منه أن يُفتي أحدٌ في شأن ما ومعارفه في مجاله بدرجة الصفر أو تكاد؟ أفليس منه أن يسبق أحدهم اسمه بصفة شاعر وهو الرابع ممّن ذكر ابن رشيق في كتابه “العُمدة” نقلاً عمّن لا يُعرف قائله: “وشاعرٌ من حقّه أن تصفعه”، أو بصفة محلل سياسيّ وهو منشئ؟ وأليس منه أن يكون أحد مسؤولاً ثقافياً وهو لا يُحسن كتابة جملة مفيدة واحدة، بل ثمة مَن يكتب له؟ أوليس منه أن يتنطّع أحد للنهوض بمهمة جليلة وهو لا يقوى على حمل صورتها؟ أو لا يختزل ما سبق، وسواه كثير، ما تختزله صيغة استفعل التي من بعض معاني الزيادة على أصلها اعتقاد الصفة والتشبّه بتعبير الرضيّ في شرح الشافية، والتي من أمثلتها: استرجلَ، واستنسر؟.

وبعدُ، وقبلُ، وأبداً، فللمسرحيّ الإنكليزي الساخر برنارد شو قوله: ادّعاء المعرفة أشدّ خطراً من الجهل.