دراساتصحيفة البعث

القمح الروسي والأمن الغذائي العالمي خلال الوباء

سمر سامي السمارة

وجّهت جائحة كورونا ضربة قاسية للاقتصاد العالمي ودفعته نحو الركود، وللحدّ من انتشار المرض، أُغلقت الحدود وأوقفت مرافق التصنيع عملياتها، وبشكل أساسي، اتخذت الدول جميع الإجراءات اللازمة للتقليل من حركة الأفراد والتواصل فيما بينهم، فسمحت لهم بالعمل مع الآخرين والالتقاء بهم عند الضرورة القصوى فقط.

ويبدو أن قطاعي السياحة وصناعة الترفيه قد تحمّلا العبء الأكبر من هذه القيود حتى الآن. إلاّ أنه لضرورة العيش، كان لابد من تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية، وبالتالي لم تتأثر المجالات الاقتصادية التي يُنظر إليها على أنها أساسية بشكل كبير، بقدر ما تأثر غيرها من القطاعات. ويصدق هذا بشكل خاص، على استيراد وتصدير المواد الغذائية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذا الجزء من الاقتصاد تطوّر في بعض البلدان في عام 2020، فعلى سبيل المثال، زادت كمية صادرات الاتحاد الروسي من الحبوب هذا العام.

لطالما كانت الزراعة من أهم قطاعات الاقتصاد الروسي، وكانت الإمبراطورية الروسية منتجاً رئيسياً للحبوب، حيث شكّلت صادراتها، قبل الحرب العالمية الأولى 28٪ من سوق الحبوب العالمي، إذ بلغ الحدّ الأقصى للكمية التي كانت تصدرها سنوياً 12 مليون طن تقريباً. إلا أن الحرب العالمية الأولى وجّهت ضربة قاسية لقطاعي الزراعة والتصدير في روسيا، فضلاً عن مجالات الحياة الأخرى. وبعد انهيار الإمبراطورية الروسية وتأسيس الاتحاد السوفييتي السابق، أصبحت إعادة بناء وتعزيز هذه القطاعات الاقتصادية أولوية إستراتيجية، ونتيجة للجهود الهائلة التي بذلها سكان الاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية، تجاوز إنتاج الحبوب في النهاية مستويات ما قبل الثورة بنحو 40٪.

أسفرت الحرب الوطنية العظمى التي امتدت من عام 1941 لغاية 1945 عن أزمة أخرى في القطاع الزراعي في روسيا، ولكن بمجرد إرساء السلم، قام الاتحاد السوفييتي مرة أخرى بتجميع موارده بغية تجديد هذا القطاع. وشهد عام 1978 حصاد كميات قياسية من الحبوب، وصلت إلى 127 مليون طن، إلا أن القطاع الزراعي في تسعينيات القرن الماضي-بعد انهيار الاتحاد السوفييتي-، واجه أوقاتاً عصيبة.

بدأت فترة النمو التالية عام 1999، وفي غلال السنوات المحاصيلية لعامي 2001/2002 والذي يبدأ في 1 تموز وينتهي في 30 حزيران في الاتحاد الروسي، باعت روسيا أكثر من 7 ملايين طن من الحبوب للخارج، بما في ذلك القمح، وبذلك استعادت مكانتها بين أكبر 10 مصدّرين للقمح في العالم.

في العام 2016، تفوّقت روسيا الاتحادية على منافستها الرئيسية، الولايات المتحدة، لتصبح أكبر مُصدّر للقمح عالمياً. وعلى الرغم من عودة الولايات المتحدة الأمريكية لتحتل المركز الأول في موسم محاصيل عام 2016/2017، إلا أن روسيا خلال موسم المحاصيل التالي لعام 2017/2018، حطّمت رقمها القياسي وحصلت مرة أخرى على لقب أكبر مُصدّر للقمح في العالم، إذ تمّ حصاد 135.4 مليون طن من الحبوب وتصدير 53 مليون طن، منها 40 مليون طن من القمح، وهو ضعف الكمية التي تمّ بيعها للخارج في العام السابق.

أفاد مقال نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” في أيلول 2018، أن الحبوب الروسية -مقارنة بالسنوات السابقة وبباقي الموردين- أحرزت تقدماً مطرداً فيما يتعلّق بالجودة في السنوات الأخيرة، إضافة إلى أن هذه السلعة كانت أقل تكلفة مما عليه الحال لبعض المنافسين، ما جعل الحبوب الروسية تستقطب اهتمام المستوردين بشكل أكبر. وبحسب البيانات المتاحة، جنى الاتحاد الروسي أكثر من 10 مليارات دولار من تصدير الحبوب في عام 2018.

في العام المحاصيلي 2018/2019 الذي بدأ في 1 حزيران 2018 وانتهى في 30 حزيران 2019، عزّزت روسيا موقعها الأول كمصدّر للحبوب، بما في ذلك القمح، ووسعت ريادتها بشكل كبير على الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي. وخلال مواسم عامي 2017/2018 و2018/2019، بلغت حصة حبوب القمح الروسي في السوق العالمية نحو 20% من المحصول.

لسوء الحظ، لم يكن صيف 2019 سهلاً على القطاع الزراعي في روسيا، إذ شهدت مناطق مختلفة من الاتحاد الروسي موجات حرارة ونوبات برد وجفاف وأمطار غزيرة. وذكرت تقارير إعلامية في منتصف ذلك العام أن حصاد روسيا من الحبوب سيكون أقل مقارنة بالسنوات السابقة، وبالتالي ستفقد مركزها الأول، كما قيل إن الولايات المتحدة خطّطت لزيادة صادراتها من الحبوب بشكل كبير، واستعادة المركز الأول. كانت ترد تقارير متضاربة طوال صيف 2019، بينما ركّز المزارعون الروس على حصاد أكبر قدر ممكن من الحبوب، وفي نهاية العام بمجرد جمع المحصول، أصبحت الحالة الفعلية لهذا القطاع في الاقتصاد واضحة.

وفي كانون الأول 2019، أفادت التقارير أن محصول الحبوب في روسيا بلغ أكثر من 120,6 مليون طن متجاوزاً  بذلك كمية محصول 2018 بنسبة 6.5٪، وقد شكّلت حبوب القمح ما يقرب من 75 مليون طن، وهو أعلى بمقدار 5 ملايين طن من الكمية التي تمّ حصادها في عام 2018.

وفي العام 2019 اشترت مصر -والتي كانت تقليدياً أحد المستوردين الرئيسيين لهذه السلعة- دفعة كبيرة أخرى من القمح الروسي وصلت إلى 295000 مليون طن. وفي وقت لاحق، أفادت تقارير أن متوسط ​​سعر القمح الأمريكي انخفض بشكل كبير، فخلال فصل الصيف توقع التّجار الأمريكيون أن يكون الحصاد الروسي قليلاً فرفعوا أسعارهم، إلاّ أن المزارعين الروس تمكّنوا من حصاد حبوب أكثر مما كان متوقعاً في ذلك العام ما سمح لهم بتصديره بأسعار معقولة. لذا فقد منافسوهم الأمريكيون مشترين محتملين واضطروا إلى خفض أسعارهم بشكل عاجل.

من الواضح تماماً، أن ضمان الأمن الغذائي يمثل أولوية لأي دولة، لذا فإن، الأراضي الخصبة والقطاع الزراعي المتطوّر والقدرة على تصدير كميات كبيرة من الحبوب عالية الجودة والرخيصة، إضافة إلى عوامل أخرى، ساعدت روسيا على ترسيخ مكانتها كأكبر مصدّر للقمح في العالم وإقامة علاقات ذات منافع متبادلة مع الشركاء الأجانب.

خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2020، قامت تركيا ومصر والسعودية، بشراء ما قيمته 1.5 مليار دولار من القمح الروسي. وبحلول نهاية شهر أيلول 2020، كان الاتحاد الروسي قد وفر أكثر من 24.7 مليون طن من القمح، وبالتالي تجاوزت الكميات المباعة خلال الفترة نفسها من عام 2019 بأكثر من 9٪ خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، وكسبت روسيا 5.2 مليارات دولار من صادرات الحبوب، وهو مبلغ يزيد بنسبة 12٪ تقريباً عن العام الماضي.

بشكل عام، تستمر صادرات روسيا من الحبوب في النمو بطريقة مستقرة، ما يؤدي إلى تحقيق أرباح للبلد وتمكينه من التعاون مع الشركاء الأجانب. إضافة إلى ذلك، أظهرت بيانات عام 2020 أنه على الرغم من جائحة كورونا والانكماش الاقتصادي الناتج، تستمر القطاعات الرئيسية للاقتصاد الروسي، الضرورية لبقاء البشرية، في النمو والتطوّر.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الإنتاج العالمي للقمح -السلعة الإستراتيجية في جميع أنحاء العالم- مستمر في الزيادة على مدار سنوات المحاصيل 2019/2020 و2020/2021. في هذه الأوقات الصعبة إلى حدّ ما، تساعد هذه الأخبار الأشخاص من جميع مناحي الحياة على التطلع إلى عام 2021 بأمل وتفاؤل.