دراساتصحيفة البعث

مصالحة خليجية مؤقتة.. والسبب المصلحة الأمريكية!

محمد نادر العمري

“المصالحة والمصارحة، المسامحة والتسامح، حدوث الخرق المنتظر، رأب الصدع بين الإخوة الأشقاء”… كثيرة هي التوصيفات والعناوين التي تمّ تداولها قبل وأثناء وبعد “القمة الخليجية” في دورتها 41، والتي شهدت إتمام المصالحة بين مشيخة قطر ومملكة آل سعود بعد خلافٍ وقطيعة دامت قرابة ثلاث سنوات ونصف، وأرخت بظلالها على طبيعة العلاقات بين دول مجلس التعاون.

جذور الخلاف

الخلافات الخليجية- الخليجية، وبصورة خاصة السعودية القطرية ليست وليدة السنوات القليلة الماضية فقط، بل تعود جذورها إلى عام 1968، عندما اتخذ الاحتلال البريطاني قراره بالرحيل من الجغرافية الخليجية نتيجة وضعه المادي وتراجع قدراته العسكرية، بدأت حينها القبائل العربية محاولاتها لتشكيل تحالفات تزيد من توسّع نفوذها وكسب حدود جديدة لملء الفراغ الذي ولّده الانسحاب البريطاني آنذاك، بما في ذلك العائلة الحاكمة السعودية، التي كانت تطالب بضمّ قطر إليها باعتبارها -وفق المزاعم السعودية- جزءاً من إقليم الإحساء، وتمسّكت السعودية بمطلبها هذا حتى تدخلت بريطانيا لكبح جموح آل سعود، وأجبرت المشيختين عام 1965 على توقيع اتفاق يتضمن ترسيم الحدود، لتنتهي بذلك الخلافات الحدودية، وتُفتح صفحة الخلافات المتعلقة بحقوق التنقيب عن النفط.

في فترة لاحقة سعت الدول الخليجية، ولاسيما بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981، لتجاوز هذه الخلافات الحدودية وغيرها، والتي لم تقتصر على السعودية وقطر فقط، بل اندلعت بين البحرين والإمارات والسعودية واليمن أيضاً، وهو ما دفع للاستعانة بدول إقليمية كمصر التي حاولت التدخل من أجل تهدئة الخلافات السعودية القطرية والسعودية اليمنية، وقوى دولية كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن طريق وجود قواعد عسكرية تضمن جزءاً من دورها  في الحفاظ على نظام التوازن بين الدول الخليجية.

ومع ذلك لم تستطع هذه الإجراءات الحؤول دون تصاعد وتيرة الخلافات ووصولها لاشتباك مباشر، كما حصل عام 1992 من صدام عسكري قصير بين قطر والسعودية في 30 أيلول 1992، لينتقل الصراع بذلك من النزاع الحدودي إلى العسكري وانتهى بالشكل السياسي، حيث سعت السعودية من خلال التنسيق مع القبائل القطرية وفي مقدمتها قبيلة “آل مرة” لقيادة انقلاب عسكري عام 1995 بإشراف من السعودية ودعمها ولكنها لم تحقق الأهداف المرجوة من ذلك الانقلاب.

أزمة 2017

مع بداية ما سُمّي بـ “الربيع العربي”، شكّل التعاون بين الثلاثي الخليجي “السعودي القطري الإماراتي” إضافة للنظام التركي، لاستثمار واقع الفوضى الحاصلة واستهداف الدول الوطنية، لا سيما سورية وليبيا، بما يتواءم مع الدور الوظيفي للأنظمة الأربعة ومصالحها، وتناوبت هذه الأنظمة في الأدوار التي أدتها كلّ حسب مصالحها وإمكاناتها، وبناء على تقاطع المصالح فيما بينها. لكن حالة التناغم هذه لم تدم طويلاً حيث شهد عام 2017 بداية انقسام بين دول هذا المحور بشكل عام، واشتداد حالة الخصومة السعودية القطرية بشكل خاص على أثر التوجّه السعودي لتحجيم الدور القطري، وارتفاع وتيرة الصدام من حيث تنافر المصالح والنفوذ فيما يتعلق بإدارة ملفات الصراع في المنطقة، والذي مثّل الدعم السعودي للانقلاب العسكري في مصر ضد نظام “الإخوان” أبرز ملفاته.

بعد ذلك تسارعت وتيرة الخلافات والاتهامات المتبادلة بتمويل الإرهاب، ولوّحت السعودية بمجموعة من الإجراءات حينها، وعرفت بما سُمّي “بالتدابير العقابية” ضد قطر في حال عدم التزام الأخيرة بالشروط السعودية، وسرعان ما شرعت الرياض من خلال ممارسة الضغوط على باقي دول أعضاء مجلس التعاون في تطبيقها بعد رفض الدوحة الإذعان لهذه المطالب، وتمثلت التدابير العقابية بداية بسحب دول المجلس سفرائها الدبلوماسيين من قطر، وإغلاق الحدود البرية معها، ومنع الطائرات القطرية من استخدام المجال الجوي الخليجي، وتجميد عضوية قطر في مجلس التعاون الخليجي وفي الجامعة العربية بالتعاون مع مصر.

وكانت هذه الإجراءات العقابية، ترمي لتقليم أظافر قطر ودورها الإقليمي وفرض قطع علاقاتها مع كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا، في المقابل لم تفلح مساعي الوساطة التي أدّتها كلّ من الكويت وسلطنة عمان في تذليل هذه الخلافات.

بل أدى ما يمكن تسميته “بتصلب المواقف” بين الجانبين إلى تبلور أشكال من التحالفات التنافسية نفوذياً وإيديولوجياً على مستوى النظام الإقليمي، ترك آثاره السلبية في مسار حلّ الأزمات وأدى في بعض المراحل إلى تعقيد وتعدّد القوى المتصارعة داخل أي أزمة. في الجانب الآخر من المشهد برزت إحدى صور هذه التحالفات التنافسية عبر إرسال النظام التركي، لأول مرة منذ سقوط السلطنة العثمانية، قوات له للخليج وإقامة قاعدة عسكرية في قطر، بذريعة حماية المشيخة ونظامها السياسي من أي عدوان عسكري سعودي أو خليجي، وفق ما أكدته صحيفة “وول ستريت جورنال” عام 2018، وهو ما زاد من التقارب والتعاون القطري التركي.

اتفاق المصالحة أو ما عرف باتفاق “العلا” الخليجي

من المؤكد أن تعمّق الخلاف الخليجي واستمراره كان يصبّ في مصلحة بعض الدول الإقليمية والدولية لتحقيق بعض أجنداتها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ولاية الرئيس دونالد ترامب، والذي نجح هو وبعض من إدارته بتطبيق ما يعرف في علم العلاقات الدولية “الإدارة بالأزمة”، أي الحفاظ على وضعية الخصومة وخلق المزيد من الأزمات داخلها دون أن تؤدي لصدام مباشر أو تسوية غير مفيدة لواشنطن، وذلك لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، تمثلت الأولى في صورة ارتفاع منسوب المبيعات العسكرية لأنظمة الخليج المتخاصمة وزيادة الأتاوات المفروضة عليها، مقابل ما يُسمّى بزيادة حماية القواعد العسكرية الموجودة في الخليج لأمن هذه الدول، بينما تمثّل العامل السياسي في تجيش المنطقة ضد إيران والقبول بالضغوط الأمريكية المتمثلة بتسريع وتيرة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.

وهذا ما يطرح إشارات استفهام متعدّدة؟ وأسئلة تتعلق بالمستفيد من هذه المصالحة أولاً؟ وإلى أي مدى يمكن أن تستمر هذه الاتفاقية ومدى متانتها ثانياً؟ وأخيراً موقف الدول الإقليمية منها، وخاصة تركيا وإيران ومصر؟.

الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في النقاط التالية:

– بلا أدنى شك هناك مصلحة الضرورة تقف خلف هذا الاتفاق، وهناك أطراف متعدّدة يختلف منسوب مصلحتها من إتمام ذلك، وتأتي مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية ولاية ترامب في قمة هرم المستفيدين، في ظل سعي إدارة ترامب من ناحية بإحكام حصارها على طهران وتحويل الدول الخليجية إلى منصة متقدمة للقيام بعدوان محتمل، أو لاستهداف الأمن القومي لإيران استخباراتياً وأمنياً من خلال القيام بعمليات تجسّس أو هجمات سيبرانية.

وهنا تتقاطع المصلحة الإسرائيلية مع الدوافع الأمريكية، واحتمالية استغلال هذه الاتفاقية لتكون مقدمة لدفع قطر نحو قطار التطبيع والانضمام لنادي الدول الموقعة على اتفاقية “إبراهام”، وهو ما قد يعني “تطبيع الإخوان المسلمين” وخاصة أن الاتفاق جاء بعد أيام من إعلان النظام التركي رغبته في تطوير العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، وهناك هدف مشترك ثلاثي يجمع “الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي عهد النظام السعودي محمد بن سلمان ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو”، يتمثل في رغبة الأطراف الثلاثة بتشكيل جبهة ضاغطة وموقف موحّد يمنع الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” من العودة للاتفاق النووي (٥+١) مع إيران أو على الأقل تضع العراقيل أمامه.

فيما يخصّ المصلحة السعودية في هذا الاتفاق فهي موجودة في أكثر من مستوى، بمقدمتها المستوى الشخصي بالنسبة لابن سلمان والذي يريد تقديم نفسه للإدارة الأمريكية القادمة على أنه رجلٌ “صانع للسلام” وليس فقط رجلاً مسبّباً للحروب والقتل والدمار، بينما المستوى الآخر يكمن في إيجاد قنوات تهدئة مع أردوغان عبر المصالحة القطرية، فمن غير المرجح أن تكون قطر قد وقّعت على اتفاق المصالحة دون موافقة تركيا -على الأقل ضمنية- لأن هناك أيضاً مصلحة تركيا في ذلك، حيث إن رئيس النظام التركي رجب أردوغان كمحمد بن سلمان لا يريد تصعيد الأوضاع مع بايدن، ولكن يريد في الوقت ذاته إيجاد أدوات ضغط لمنع إدارة بايدن من تغيير رموز الأنظمة الحاكمة في السعودية وتركيا.

– مما يؤكد أن هذا الاتفاق لم يحصل بناءً على الرغبة والإرادة المتبادلة بين الدوحة والرياض، وخارج البيت الخليجي، هو غياب كلّ من رأس النظام البحريني حمد بن عيسى آل خليفة، والسلطان العماني هيثم بن طارق، عن المشاركة بالقمة الخليجية الحادية والأربعين، وهو ما يضعنا أمام حقيقة حتمية أن الولايات المتحدة الأمريكية وعبر صهر الرئيس الأمريكي “جاريد كوشنير” فرضت الاتفاق الحالي.

– مهاجمة الإعلام والنخب السياسيّة المصرية لهذا الاتفاق، تشير لأمرين: الأول أن السعودية لم تشاور مصر في هذه المصالحة وهو ما يظهر واقعية تحجيم الدور المصري، والثاني خشية النخب المصرية من أن تكون مصر إحدى ساحات التوافق السعودي التركي القطري، وهو ما يعني عودة الإخوان لها.

مما يؤكد أن هذه المصالحة هي وقتية أو ما يُعرف بحاجة الضرورة، عدم تضمن بيان “العلا” وسائل وطرق وآليات حقيقية لمعالجة أي نزاع أو خلاف ينشبُ بين دول أعضاء مجلس التعاون الخليجي.