مجلة البعث الأسبوعية

بونوكيو.. من لم يتقن فن الكذب الحلو فليتقاعد مبكراً عن الكتابة للطفل!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

 

أصالة الكذب

يقول فيكتور هوغو: “يكره الناس من يضطرونهم للكذب عليهم”.. إلا في حالة كتّاب الحكاية للأطفال، ومبدعي الرسوم الموجهة لهم، فإن الكذب أمر محمود ومرغوب، أما التلاعب بالواقع فهو أمر محبذ ومطلوب، بل لا بد من التفنن في اللعب بالقوانين الطبيعية لكل الأشياء، والتحايل على المفاهيم السائدة والأعراف، وخرق القوانين الفيزيائية، حالة من السحر الفكري الذي يجب أن يتحلى به كاتب وفنان الأطفال.. كلنا نريد أن نكون كفتاة الألب الصغيرة “هايدي” في رائعة الكاتبة السويسرية يوهانا شبيري، والتي حولها هياو ميازاكي – هنا، ككاتب للسيناريو ومصمم للشخصيات – إلى مسلسل مبهر للرسوم المتحركة، حين افترض أن الغيمة الصغيرة، التي تسبح قرب قمة جبل من جبال الألب، قادرة على حمل الصغيرة عالياً، لتحلق مع أرواحنا عبر رحلة خيالية ممتعة، نحو أفكار وأسئلة وتخيلات لا زالت نكهتها الخام مخبأة بروعتها في حنايا قلوبنا.

الكتابة للطفل أساسها فن الكذب الجميل – كذب يجعل من كل المستحيلات قابلة للتحقق، ويدخلها في درب المتاح والمقبول – فتُراكم عبر الزمن، وعبر تنوع ثقافات الشعوب، فن كذب جميل وخيال مبرر لأجل إدخال المتعة في خلد الطفل وقت سرد الحكاية.

في رائعة الكاتب الروائي الإيطالي الشهير كارلو كولودي، التي تحمل عنوان “بونوكيو”، يتحدث بطريقة لطيفة عن أنف الشخصية الخشبي الذي يتطاول نحو الأمام كلما نطق بونوكيو بكذبة؛ ولو أن هذا الأمر، المتخيل في الحكاية، كان واقعاً معاشاً ومحققاً بين البشر، لكان من الطريف أن تتخيل مدى الأنوف المتطاولة بسبب الكذب والاحتيال في الكلام.

 

اعترافات بالجملة

قد يكون من الإنصاف ألا يتهم كاتب قصص أطفال كاتباً آخر بالسرقة الموصوفة لنصوص، هنا أو هناك، دون الإتيان بدليل قاطع وواضح وملموس، وكذلك حال الرسوم واللوحات والشخصيات الموجهة للأطفال.

أذكر أنني بعد أشهر قليلة من صدور مجلة أسامة، في عددها 1 نيسان 1997، وفيها المغامرة رقم 1 من مغامرات “أبو حمدو”، اتهمت من قبل رسام آخر بسرقة الشخصية من رسوم ألمانية معروفة.. أصابني التبرم والضجر من هذه التهمة، ورحت أبحث عن أية رسوم قد يكون فيها تقاطع مع شخصية “أبو حمدو”، لكي أدافع عن نفسي وعن الشخصية، ورحت أفند ادعاءات المتهم لي بكل محفل، وأمام أصدقائنا الفنانين، وأمام الناس، ولا أترك فرصة إلا وأذكر الموضوع، حتى صار هاجسي الأوحد دفع تهمة السرقة عن نفسي.. ومضت السنوات وانطوت صفحة الاتهام تلك.

ولكنني في هذه الأيام، وأنا أودع العام 2020، وبينما أقوم كعادتي بتأمل ما أنتجته من لوحات وقصص ورسوم وشخصيات للأطفال في هذا العام، استوقفتني ملياً حالة تهمة السرقة والاقتباس الموجودة في شخصياتي.. لأول مرة، أكتشف أني سارق رسوم متقن لفن الاقتباس بطريقة غير مسبوقة. وجدت كل اتهامات البعض لي حاضرة أمام عين واضحة جلية لا ريب فيها، حقيقة دامغة كنت أحارب كـ “دونكيشوت” عبثاً طواحين الهواء المحقة.

أنا سرقت ملامح وخطوط “أبو حمدو” و”عجاج” و”أبو سلمو” و”سليمو”، وباقي الشخصيات التي أمضيت معها ردحاً من الزمن، عبر مسلسلات على صفحات المجلات الطفولية، في سورية وخارجها.

أجل أنا اقتبست ملامح وخطوط كل شخصياتي من أصول موجودة في محيطي.

كان “أبو حمدو” يشبه موظفاً بسيطاً يعمل في سقاية نباتات الحديقة والشجيرات التي بجانب سور كلية الفنون الجميلة؛ وكان عجاج يشبه فلاحاً أسمرَ من ريف مدينتي يحضر كل موسم ربيع لبن الغنم ليبيعه في دكان أبي، وتلك الشخصية مأخوذة من ذاك العم الطيب؛ وتلك المرأة الجميلة القوية تشبه جدة أحد أصدقائي، حين كانت تطاردنا بنظراتها، ونحن نسرق توت الشجرة المدللة في فناء دارها، ورحت أعدد، وأعدد، سرقاتي الفنية تلك!!

أنا مدين لكذب الحكايات الذي أتقنه في كتابة الروايات القصيرة عن أميرات الحقول الصغيرات في وطني، أتقن فن السرقة منذ كنت طالباً في كلية الفنون، حيث برعت في سرقة ضحكات الأطفال السوريين لأنقشها على لوحاتي البيضاء ضحكات لشخصياتي الكرتونية.

قالت لي صحفية عزيزة يوماً: لماذا تفرط في رسم الوجوه ضاحكة، والفم فاغر بالضحكة لهذه الدرجة؟!

توقفت ملياً، وأنا أراقب لوحتي التي كانت مثار سؤالها، وقلت لها: لا أعرف!! ربما هذه عدوى الفرح السورية من وجوه أطفالنا انتقلت باللاشعور نحو يدي.

 

اعتزال عشق

يقول الشاعر محمود درويش: الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب. من لم يتقن فن الخيال والكذب الحلو فليتقاعد مبكراً عن الكتابة للطفل، وعن الرسم للطفل، لأن الغد سيمحو بطرقات أيامه القاسية مسامير نعوش الفن العابر بشكل سطحي. من لم يحفر داخل الخيال عميقاً وجاء بكنوز الدهشة، عليه أن يبادر نفسه بجلسة حقيقة واعترافات أمام الذات، وليفسح المجال للوافدين الجدد بمقدراتهم وإمكاناتهم الخلاقة على تحقيق الكذب الجميل والخيال المفرط في اللاواقعية، لكي تكون لقلوب أطفالنا أجنحة تحلق بهم نحو البعيد المأمول.