مجلة البعث الأسبوعية

بسطات الكتب في دمشق: الشارع يرغب بالأسواق الورقية البسيطة.. ربما لأنها تشبه بساطته!!

“البعث الأسبوعية” ــ عصام عبود

لا تزال العاصمة دمشق تحتفظ بالكثير من العلوم والآداب العالمية والعربية، وربما ارتفع عدد القراء في ظل الظروف التي تشهدها البلاد، وأصبح الكتاب في الآونة الأخيرة حاجةٌ أساسية لدى الكثيرين، والاستعانة به ضرورية للتغلب على الإحساس بالحاجات المادية التي تنقصُ بين الحين والآخر نتيجةَ الحصار الاقتصادي، وما نجم عنه من انخفاض قيمة الليرة السورية. وفي واقع الحال، فإن الثقافة وليدةُ الحاجةِ للمضي إلى الإمام، كما أنه ليس غريباً على الشارع السوري أن يلجأ للقراءة حين تشتد عليه الحال وينفذ صبره حيال الواقع، فهذه البلاد أنجبت الكثير من الأدباء والمثقفين الذين أضافوا للعالم رؤية أدبية جديدة في حلكة أزماتها التاريخية، وأكثرها سوءاً؛ ولهذا أصبح القراء يعتمدون، في الكثير من الأحيان، على شراء الكتب المقروءة سابقاً من البسطات عوضاً عن دور النشر، ولاسيما أن هذه البسطات ساهمت كثيراً في انتشار الثقافة، وساعدت القارئ على انتقاء ما يرغب بأقل كلفة مادية.

 

تكاليف باهظة

بحسب نمير صالح، صاحب دار النمير للطباعة والنشر، فإن “انخفاض قيمة الليرة سبب ارتفاعاً بأسعار الكتب.. ولكنه يبقى ارتفاعاً نسبياً، فما زال سعر الكتاب أرخص من سعر أية سلعة”، وأوضح “إن تصنيف المواطن للأولويات ونظرته للكتاب هما اللذان جعلاه يشعر بارتفاع سعره، فوسطياً يمكن أن يصل سعر الكتاب الواحد إلى ثلاثة آلاف ليرة”. وأما عن الكتب المستوردة من خارج سورية، فأجاب: “لدينا مخزونٌ جيد من الكتب في سورية، ولا يمكننا الاستيراد، لأن ذلك سيؤدي لزيادة أسعار الكتب خمسة أضعاف عما هي عليه الآن”، وأكد عدم وجود أي فرق بأثمان البيع بين المكتبات والبسطات، قائلاً: “القارئ يعتقد أن الكتب المستعملة أقل ثمناً من الكتب التي تباع في مكتباتنا، ولكن اعتقاده خاطئ”، وأشار إلى أن “بسطات الكتب لا تسبب ضيقاً لمكتبات دمشق”، وحسب قوله: “نحن لسنا مستفيدين من غلاء الأسعار، فكما تزيد أرباحنا تزيد خسائرنا وتكاليفنا المادية أيضاً”.

أما أحمد أيوب، صاحب دار العرّاب للطباعة والنشر، فكان له رأي مختلف، حيث قال: “إن ازدياد القيمة المادية للكتب أمر طبيعي في هذه الظروف، فالكتب التي تباع بسعر قليل على أرصفةِ دمشق ليست خاضعةً لحقوق النشر وحقوق المؤلفين، لأنها مستعملة أصلاً”، وألقى باللوم على المعنيين، موضحاً أن “عدم الدعم الكافي للكتب يسبب ارتفاع أسعارها”، ولم يكتفِ بادعائه، حيث أعلن أن “بسطات الكتب من الممكن أن تسبب عائقاً أمام دور النشر”.

 

إقبالٌ كبير وإدبارٌ أكبر!!

وتختلف أعداد القراء في العاصمة دمشق وتتنوع فئاتهم العمرية، حيث شرح صاحب دار النمير أن القراء ما زالوا يرتادون أماكن بيع الكتب: “هناك تراجع في بيع الكتب مقارنة بالبيع قبل الأزمة، ولكن القارئ لم يزل موجوداً، ولدينا شباب مثقف، ويسعى جاهداً إلى البحث والقراءة”. ومن حيث الكتب التي تباع بكثرة، أفاد: “الأدب الروسي كثيراً ما يطلب بين أوساط الشباب”، فيما نفى ذلك أحمد أيوب قائلاً: “ليست هناك قراءة في دمشق، وعدد القراء في انخفاض تدريجي”، وأكد أن “الشباب لا يقرؤون هذه الأيام”؛ وبين هذا وذاك، شرح لنا عادل مهنا – وهو قارئ – أن سبب عدم إقبال الشباب على أسواق الثقافة هو “البدائل المعرفية لدى مواقع الإنترنت”، غير أنه يقرأ دائماً: “لم أتوقف عن القراءة منذ أن بدأت الحرب على سورية، وقد وجدت أن الثقافة هي التي تمنح السلام لأبنائها”. وعن تفضيله بين الأسواق، أجاب: “على الصعيد الشخصي أفضل أسواق الكتب المستعملة لأن أسعار البيع تتناسب مع دخلي”. وبحسب أدهم العجمي، صاحب بسطة كتب تحت جسر الرئيس، فهناك قراء جيّدون في سورية، ولكن هذا الأمر يبقى نسبياً، وليس باستطاعتنا أن نجزم فيه، لأن القراء يختلفون بالأذواق، ونحن نسعى دائماً لتأمين ما يحتاجه القارئ الذي يبقى عليه أن يختار، فالشارع يرغب بأسواقنا الورقية البسيطة.. ربما لأنها تشبه بساطته”، فيما أوضح أبو زينب، وهو وراقٌ من وراقي دمشق: “إن الكتب التي يطلبها الناس غالباً ما تكون كتباً دينيةً. وفي الحقيقة، لا أدري لماذا كل هذا الزحف إليها”، وأكد أن هناك من يبحثون عن الأدب والفن والعلم: “الأكثر قراءة هي كتب الشريعة الإسلامية، وبعدها تأتي الروايات العربية والعالمية”. وعن بقية أنواع الأدب، قال: “قليل ما يأتي إلينا قارئ يهتم بالمسرح أو بالشعر، ونادراً ما تُطلب كتب الفن والموسيقا”.

 

حلول بديلة

بما أن سورية اليوم تشهد انحداراً في مستويات المعيشة اليومية، لم يبق أمام القراء والبائعين إلا أن يجدوا حلولاً بديلة من شأنها تخفيف وطأة الأسعار على الطرفين، وهذا ما تطرق إليه نمير صالح: “لدينا في دمشق فعالية تساعد الناس في ظل هذه الظروف.. هناك أربعة مراكز لمشاركة الكتب بين القراء، حيث بإمكان القارئ أن يترك كتاباً انتهى منه، ويأخذ كتاباً آخر، لكن ثقافتنا الاجتماعية ليست كافية لقبول فكرة المشاركة”؛ وعلل ذلك بأن “القارئ يريد أن يأخذ الكتاب الذي يشاء، دون أن يودع كتبه مع الآخرين!”، غير أن صاحب دار العراب أضاف: “أحياناً يكون باستطاعتنا أن ننقص من سعر الكتاب ألف ليرة لجذب القراء”، وأضاف: “لسنا قادرين كدور نشر على خصم الكثير من الأثمان”، وقال أبو مؤيد الوراقُ على الأرصفة العامة: “إن مساهمة وراقي دمشق تكون في إعادة نشر الكتب المهملة واستحضارها للأذهان، ويحدث أحياناً أن نشتري الكتب من دور النشر ونقدمها للقارئ بسهولةٍ تامة”. أما جلال فقال مؤكداً: “إننا، كبائعي كتبٍ، نقدم التسهيلات للقارئ، فأحيانا نقدم له كتاباً نادراً بثمن قليل، وأحياناً إذا كان معروفاً بشغفه بالقراءة فإننا نقرضه الكتاب إلى الأجل الذي يراه مناسباً”.

 

ضرائبٌ مرفوعة ومشاكل عالقة

أما عن الضرائب المفروضة من الحكومة على الاستيراد والبيع، فكان حديث دار نمير نافياً لهذا النبأ: “لا ضرائب علينا من الحكومة بما يخص الاستيراد، والرسوم المفروضة تتعلق بفتح المحلات التجارية، وهذا ما ساعدنا، حتى الآن، على تبادل المعارف مع دور النشر في الدول المجاورة”، في حين أشار العراب: “صحيحٌ أن الضرائب مرفوعة عن الكتب، ولكنها مشددة على الأوراق والمحابر”.

بدوره، أكد أبو زينب أن بسطات الكتب لا تتعرض لأي مضايقة من الحكومة: “هناك تسهيل كبير من قبل الحكومة السورية بما يتعلق بهذه المصلحة”، عارضاً المشاكل الثانوية التي يتعرضون لها – كبائعي كتب – في هذه المدينة: “إننا نقيم أعمالنا تحت جسر الرئيس، حيث الازدحام المروري، مما يجعل السائقين يلقون نفاياتهم على بسطات كتبنا، فضلاً عن أنه ليست هناك إضاءة كافية، مما يعرضنا للسرقة أحياناً”. وختم أدهم العجمي حديثه: “على الرغم من بعض العوائق العالقة، إلا أنني سعيد بهذه البسطة الورقية، ولست أطمح لامتلاك مكتبة عوضاً عنها”، وتوجه ناصحاً وراجياً: “هذه المهنة ترجو من الشغوفين بالثقافة الانضمام تحت لوائها”، طالباً زيادة عدد وراقي دمشق وعدد قراء دمشق، فبحسب قوله: “لكم من الكتاب كل الحب”.

يبدو أن العاصمة دمشق لم تزل عاصمةّ للثقافة العربية، ولم يزل أبناؤها يتحدون مصاعب الحياة، ويواصلون ثقافتهم وتنمية معارفهم على الرغم من الحصار الاقتصادي، وهذه المرحلة القاسية التي تعيشها دمشق.