دراساتصحيفة البعث

مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ولندن

هيفاء علي

في نهاية عام 2020، في اللحظة الأخيرة، تمكّنت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي من تجنّب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق. ووقع المعسكران اتفاقية تجارة حرة وصفها مسؤولون أوروبيون وبريطانيون بأنها فرصة “لتقليل الضرر”. ومع ذلك، يجب انتظار أشهر وربما سنوات من المفاوضات المتوترة بين لندن وبروكسل بشأن معظم قضايا العلاقات الدولية، فهل سيتمكّن الأصدقاء القدامى من تجنّب أن يصبحوا منافسين شرسين؟.

في شباط 2020، عندما دخلت اتفاقية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي حيّز التنفيذ، أعرب ميشيل بارنييه، رئيس المفاوضات مع المملكة المتحدة، وجوزيب بوريل، الممثل الأعلى لاتحاد الأعمال الخارجية والسياسة الأمنية، في بيان مشترك، عن أملهما في استمرار “الشراكة” حتى بعد الطلاق الرسمي، إذ يرتبط الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ مشترك وجغرافيا وثقافة وقيم ومبادئ مشتركة وإيمان قويّ بنظام متعدّد الأطراف، ولهذا، وبحسب هؤلاء المسؤولين الأوروبيين الكبار، يجب أن تكون المسألة أيضاً مسألة “تعاون في الأمن والدفاع”. من جهته، تحدث رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في ذلك الوقت عن ضرورة الحفاظ على العلاقات، بل وتطويرها في مجال السياسة الخارجية والدفاع، كما تحدث عن الحفاظ على وحدة التحالف الغربي والعلاقات مع أوروبا، مشيراً إلى وحدة مواقف المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن الغالبية العظمى من القضايا. ومع ذلك، فإن الصفقة، التي كان من الصعب للغاية التوقيع عليها في 24 كانون الأول 2020، تتعلق، وفقاً لوسائل الإعلام البريطانية، فقط بالقضايا الأكثر إلحاحاً، وقبل كل شيء القضايا التجارية. وبإصرار من المملكة المتحدة، لم يتمّ ذكر القضايا العسكرية والسياسة الخارجية على الإطلاق، ما يعني أن هذا لا يظهر فقط ضيق الوقت خلال المفاوضات المتوترة، وإنما أيضاً الرغبة في تأجيل مراجعة الأولويات في العلاقات مع أوروبا.

في 28 كانون الأول 2020، وافقت دول الاتحاد الأوروبي على توقيع اتفاقية حماية الاستثمار المتبادل مع الصين، والتي يمكن تفسيرها على أنها رغبة في مراجعة العلاقات عبر الأطلسي بجدية. ونتيجة لذلك، قلّلت من أهمية لندن بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي كوسيط رئيسي طويل الأمد في العلاقات مع واشنطن. ومع ذلك يتساءل مراقبون: ألن تسعى لندن لتعويض الخسائر الناجمة عن مغادرة الاتحاد الأوروبي من خلال تطوير العلاقات مع دول ثالثة حتى على حساب مصالح الاتحاد الأوروبي؟.

هذه السياسة البريطانية تثير حفيظة فرنسا وألمانيا، إذ تسعى باريس منذ عدة سنوات إلى تعزيز التكامل السياسي الأوروبي، ومنح الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، وحتى الحدّ بطريقة ما من دور الناتو في أوروبا، ويفضّل أن يكون تحت إشراف فرنسي. لكن في السنوات الأخيرة، ركزت أنجيلا ميركل على تعزيز الدور القيادي لألمانيا في الاتحاد الأوروبي والقارة الأوروبية ككل. وفي غياب السيطرة الكاملة على جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تعمل برلين وباريس جنباً إلى جنب، ففي عام 2020، اقترحت قوتا الاتحاد الأوروبي بحزم خطة إنقاذ للمجتمع، حتى أنهما طورا برنامجاً لإصدار دين مشترك للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في عام 2021، سيخضع التكامل للاختبار من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة، وكذلك الانتخابات الألمانية ورحيل أنجيلا ميركل من منصبها.

وفي الصراع من أجل إقامة علاقات “خاصة” مع الولايات المتحدة، تتواجه مصالح لندن علناً مع مصالح الفرنسيين والألمان. بالمعنى الاستراتيجي، يمكن للقدرات العسكرية أن تعمل لمصلحة فرنسا في عيون أمريكا، والقوة الاقتصادية لمصلحة ألمانيا. بينما، على الأقل اسمياً، تمتلك المملكة المتحدة كليهما. وإلى جانب الترسانة النووية، تمتلك بريطانيا أكبر ميزانية عسكرية في الناتو بعد الولايات المتحدة، كما يحتل اقتصاد المملكة المرتبة الخامسة في العالم، وفقاً لصندوق النقد الدولي. من وجهة نظر بعض المحلّلين، من المرجح الآن أن تأخذ فرنسا زمام المبادرة في العلاقات مع واشنطن، ولاسيما أن أنتوني بلينكين الذي تمّت ترقيته إلى وزير الخارجية من قبل جو بايدن، تلقى تعليمه في باريس، وشارك في برنامج “القادة الشباب” نفسه التابع للصندوق الفرنسي الأمريكي مثل إيمانويل ماكرون. أنتوني بلينكين يعرف أيضاً المستشار الدبلوماسي للرئيس ماكرون بعد العمل المشترك في الأمم المتحدة.

من الواضح أن التطور النشط لعلاقات المملكة المتحدة مع تركيا يشبه التحرك نحو الاتحاد الأوروبي، فقبل الانفصال الرسمي عن المجموعة ، كانت لندن أكثر من أي شخص آخر في الاتحاد الأوروبي تُظهر بالفعل “تفهماً” لكل من التغييرات السياسية في تركيا و”إصرار” أنقرة المتزايد على الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. وفي نهاية عام 2020، على خلفية الخلافات الصارخة بين باريس وأنقرة ، وقعت المملكة المتحدة اتفاقية تجارية شاملة مع تركيا. لكن في الوقت الراهن، تبدو المملكة المتحدة عالقة بين قطبين- أمريكا وأوروبا، وفي مثلث الولايات المتحدة وأوروبا والصين.

من الناحية النظرية “كل الطرق مفتوحة” أمام لندن الآن، بينما لا يزال يتعيّن على الاتحاد الأوروبي فهم أي نموذج من العلاقات مع المملكة المتحدة يتوافق مع المصالح طويلة الأجل للمجتمع الأوروبي، وقد يكون الفائز في الحوار الثنائي النهائي هو الذي سيتخلّى بسرعة أكبر عن الأوهام المتعلقة بالعلاقات القديمة.