ثقافةصحيفة البعث

ما بين المبدع والمجتمع

حين وقف الإنسان يتأمّل هذا الكون العظيم وقوى الطّبيعة الّتي كانت تتقلّب وفق أهوائها ولم يكن يملك أيّة سلطة عليها سأل نفسه: من أنا؟.

في تلك اللحظة كانت ولادة الإنسان المفكّر فكلمة أنا هي الكلمة العاقلة الأولى الّتي قادت الإنسان إلى معرفة نفسه والّتي حدّد بها ملامح شخصيّته الوجوديّة.

وعندما اضطرّ الإنسان للحياة في مجتمعات كانت بسيطة في البداية وتطوّرت عبر الزّمن حتّى وصلت لمرحلة الكيانات السّياسيّة المعقّدة بمختلف مسمّياتها، تتكوّن من أفراد متمايزين بكلّ شيء تحدّد عددهم طبيعة هذه المجتمعات كان لابد من ناظم للعلاقات فيما بينهم فكانت الأعراف الّتي تطوّرت إلى قوانين في وقت لاحق، وكانت مهمّتها في البدء الحفاظ على مصلحة الفرد والمجتمع في آن واحد، وتمّ تفويض مهنيّين للقيام بالسّهر على حسن تنفيذ هذه القوانين، وكلّما تطوّرت هذه المجتمعات كانت أعداد هؤلاء المهنيّين تتزايد ويزداد التّباين فيما بينهم من حيث المستوى الفكريّ والمهنيّ والأخلاقيّ، حتّى وصل الأمر ببعضهم لتقديم مصلحته الخاصّة على حساب المصلحة العامّة، ممّا أدّى لانحرافهم عن الغاية المرجوّة من وجودهم، وأصبحوا يشكّلون عبئاً ثقيلاً على مجتمعاتهم، وأثّر هذا على العلاقة ما بين الفرد المبدع والمجتمع فبدل أن تكون علاقة رافد يصبّ في محيطه الطّبيعيّ، حلّ التّناقض الّذي قد يصل للقطيعة فيما بينهما،  وتمّ الحدّ من حرّية المبدع لصالح التّفسير الخاطئ لمفهوم المجتمع.

فعندما يمسك المبدع قلمه ليكتب تنساب نفسه حبراً على الورق.

يلتفت يميناً يقابله مهنيّ الرقابة فيشيح بوجهه مسرعاً لليسار يقابله على الفور مهنيّ آخر ولانعدام ثقته بموضوعيّة العلاقة معهما يبدأ بالتّراجع رويداً رويداً ويبدأ الشطب والتّحوير والإبهام والرّمزيّة.

وعندما ينتهي من الكتابة يعيد قراءة ما كتب فيرى حروفاً وأفكاراً لا تمثّله ونفساً أخرى لا يعرفها فيبدأ من جديد وبعد عشرات المحاولات يقتنع بالواقع وأنّه لا يمكن أن يرى نفسه الحقيقيّة على الورق، فيبقى عليه الاختيار ما بين الانزواء جانباً والانطواء على نفسه أو مجاراة واقعه.

فممّا لاشكّ فيه أنّه لا إبداع بلا محبّة وحريّة فكريّة وهما الطريق للوصول لأعلى تجليّاته ،فالمحبّة كعاطفة سامية تتربّع على قمّة العواطف بلا منازع وتفيض على الجّميع دون استثناء والحريّة الفكريّة بمفهومها الأوسع تؤدّي بإحدى معانيها للتّخلص من أوهام وأدران وقيود الماضي البالية والانطلاق نحو الوعي اللامتناهي للمعنى الحقيقيّ لوجودنا في هذا الكون والتّماهي معه وتصل بنا للتّحرر النّفسيّ والعقليّ.

هنا علينا أن نتساءل طالما أنّ الأنا الحرّة هي مصدر الإبداع، ومحكوم عليها كما على الجّميع بالحياة  في مجتمعات بنفس الوقت، هل يمكن الوصول لقوانين تضمن حقّ المبدع وحقّ المجتمع معاً، والقيام بالحدّ من تغوّل المهنيّين غير الجّديرين بالمهام الموكولة إليهم أم أنّ هذا محض افتراض خياليّ؟.

أمين إسماعيل حربا