الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حوار مع حفيد

عبد الكريم النّاعم

أحد ممَن هو بمقام أحفادي، وأحفادي كُثر والحمد لله من ذكور وإناث، دخل وكنتُ جالساً وصديق العمر، فسلّم بأدب، وبعد فترة صمت قال لي: “جدّو أنا أقرأ أحياناً على الفيسبوك بعض ما تكتبه، ولكنّني لا أفهم بعض أقوالك”، قلت له مُداعباً: “أنت تقرأ (أحياناً) وهذا بحسب قراءتي، إنْ كانت صحيحة، أنّك من أفضل أبناء جيلك، لأنّ معظمهم لا يقرأ لا ما تحمله صفحات التّواصل الاجتماعي، ولا ما تحمله صفحات الكتب التي تكاد تئنّ موتاً على الرفوف، فأنتم يا جدّو منصرفون إلى الموبايلات بهمم عالية، وما تقدّمه من ألعاب، وتسليات، وحزّورات، ممّا لا شأن له لا بالثقافة ولا بالوعي”. بدا عليه الخجل، وأنّه قد حُوصِر، فأردتُ إخراجه من حرجه، فتبسّمتُ في وجهه وقلت له: “نعود لبداية حديثنا، هل تذكّرني ببعض ما لم تفهمه؟”، بدا عليه شيء من النشاط، وقال: “ختمتَ إحدى زواياك بالقول: “فِلتْ العجلْ على أمّو، ما معنى ذلك”؟

قلت: “معك حقّ، هذا يا جدّو مثل فلاّحي يعرفه الفلاّحون في بلادنا، ولاسيّما حيث تُربّى الأبقار، وأنت يا حبيبي تعرف أنواع الحيوانات التي تعرضها الشاشة الفضيّة، ما كان منها في بيئتنا، وما لم يكن منها، كالحيوانات التي تعيش في غابات أفريقيا، تعرفها بصورها المعروضة، أنت تعرف الحصان، ولكنّك لم تركبْه كما ركبناه، ولم تلمس جلده وهو مكدود بالعرق، ولم تتحسّس أنفاسه وهو يجرّ ما يُطلَب منه جرّه، وهكذا تظلّ معرفتك معرفة خيال معروض لا أكثر، المهمّ، أعود لما سألتَ عنه، في القرى يربّي الفلاّحون الأبقار، وقد كانت قديماً تُستخدم في الحراثة، هذا قبل انتشار الجرّارات الميكانيكيّة، وما زالت تقوم بدورها القديم في بعض الأرياف من بلادنا، وهي إضافة لذلك يُستفاد من حليبها، ومن الحليب يستخرجون الجبنة، والقريشة، ومن القريشة يصنعون الشنكليش المعروف، ولن أترك التّداعيات تجرّني إلى ما يُشبه التذكّر الحنون، هذه البقرة يا جدّو تَلِدُ عِجْلاً أو عِجلة، فتُرضعه من حليبها، وهكذا ينافس هذا العجل أهل البيت في استهلاك الحليب الذي تُنتجه البقرة، ولذلك كان أصحابها يعمدون إلى ربْط العجْل بحبل مشدود إمّا إلى وتد حديديّ في الأرض، أو مغروس في جدار الدار، وما أن تدخل البقرة الدار عائدة من المرعى حتى تتوجّه بنظرها إلى ولدها، وتأتي صاحبة البيت، أو إحدى بناتها لتحلبها، لأنّ حلْب البقرة من اختصاص النساء لا من اختصاص الرجال، بل ربّما إذا أرادوا توجيه ما يغيظ لرجل ما، قالوا له: “حلاّب بقرة”، أي أنّه يقوم بعمل هو وقف على النساء، تأتي أيّ امرأة، أو فتاة لتحلب البقرة، ويبدو أنّ البقرة حين ترى وليدها يزداد دَرّ حليبها، وللْحلْب طريقته الخاصّة تتعلّمها مَن لا تعرفها ممَن هو أعرف منها، ويزداد هياج ولد البقرة لرضاعة حليب أمّه فور رؤيتها، ولكنّه مربوط بقوّة، ويصادف أن يتمكّن العجْل من قطْع رباطه فيندفع هائجاً للرضاعة، فما يترك في ثدي أمّه إلاّ ما ندر من الحليب، ولذلك حين ينفلت يصيح أهل الدار: “فِلتْ العِجْل على أمّو”، بمعنى أنّه لن يترك في ضرعها ما يُستفاد منه”.

وضع الشاب يده على فمه وضحك وقال: “الآن فهمت معنى ما ختمتَ به الزاوية، “فلتْ العجل على أمّو”، يعني حسب قولك أنّ الجشعين، والسماسرة، وشافطي المال العام، لن يتركوا لنا قطرة حليب”، قلت: “حيّاك الله هذا هو المقصود، وأزيدك معرفة قد تلزمك، فحين يُذبح ابن البقرة، تفتقده أمّه، ولكي لا يجفّ حليبها، يعمدون إلى حشو جلد العجل المذبوح بالقشّ والتّبْن، ويوقفوه في إحدى زوايا الدار، بحيث تراه أمّه فتظنّه حيّاً فتدرّ الحليب، هذا ما يُسمّى “البَوّ”، وقد شاهدتُه في طفولتي، وكنتُ أحزنُ لأنّهم يخدعون البقرة التي لا تخدعهم، في شيء، ويرد ذكره في الشعر الجاهليّ، أرجو يا جدّو ألاّ يوصلنا أولاد الحرام إلى أن نكون “بَوّات محشوَة بالقشّ والتّبن”.

aaalnaem@gmail.com