الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

كان يمكن!؟

                                             د. نهلة عيسى

أعتقد أن أتعس العبارات في الكون هي: “كان يمكن” أو “يجب أن يكون!”، لأنهما عبارتان تختزنان في ثناياهما، الخيبة، الخذلان، العجز، وشنق الأحلام، وإليكم التفاصيل: انفجر خزان الكهرباء في شارعنا، وبقينا أربعة أيام متواصلة بلا ضوء ولا ماء، وتحسرنا سراً وعلناً على سابق أيامنا “المستنيرة” بساعتي كهرباء مقطعة الأوصال، وكان يجب أن يكون ذلك جريمة كاملة الأوصاف، لولا أن حياتنا بأسرها باتت جريمة!؟

وعلى ذات المنوال، يمكنني البدء من الصفر: صدقنا كل ما قاله لنا أهلنا في الصغر، قبلنا يد الجد والجدة، ولزمنا الصمت في حضرة الكبير والصغير، ولم نسمح للعب بأن يوسخ ملابسنا، ورفسنا الحب بالقدم لئلا نتهم بقلة الأدب، والتزمنا بالصراط الاجتماعي المستقيم، الكذب عيب، والمال بلا جهد حرام، ووسخ دنيا، ولذلك عشقنا الكتب وقرأنا، وأمسكنا الأقلام وكتبنا، واعتلينا المنابر وهتفنا بحب الوطن، وكان يجب أن يكون ذلك “بروتوكول” الحياة السعيدة “القويمة”، لولا أن “وسخ الدنيا” صار سيد الدنيا!؟.

ذهبنا إلى العمل محتكمين إلى الضمير، واتبعنا القوانين، وصبرنا على أشباه الأميين يتولون المناصب، وينفضون فوق رؤوسنا ريش الغرور، على أمل أن ذلك مرحلة عابرة، وأن سيف الصواب في الطريق، وأن رؤوس هؤلاء قد أينعت وحان قطافها، وضاع العمر في الانتظار، وقالوا لنا: إن الطريق وعر، وأن العيب فينا أننا بلا صبر، وكان يجب أن يكون ذلك جريمة، لولا أن لبس الريش صار حلماً وطنياً!؟.

هل تريدون أن استمر!؟ نحن من جيل رُبي على الغضب من “وعد بلفور” و”سايكس بيكو”،  ثم أُجبر على الاحتفال بالطبول بأعياد استقلال هي نتاج “سايكس بيكو”، جيل باعه من باعوا الأرض، الخطب الحماسية، والوعود الخلبية، والمرارة، وحرقة مالحة بالذنب أن فلسطين خلف الباب، لكن جيلنا توانى عن قرع الباب، فتحول طوعاً إلى قبيلة من الطرشان، لأن الطرش “جنرال نصر” في ساحة هزيمة، وأداة تطهر من صقيع المعرفة أن كل ما يقال ضلال!؟ وكان يجب أن يكون ذلك جريمة، لكن أصبح مجرد السؤال عما حدث هو الجريمة!؟

نحن من جيل ولد وسكينه في ظهره، فبدا وكأنه جيل غير مبرر، لا شارك في هزيمة، ولا في انتصار، فبدا كمواطن مستقيل، غير مسموح له بالعمل، ولا دُعي للتحقيق ليقول، فداسه النسيان وطمره التهميش ومسه صقيع غربة صالات الترانزيت، حيث المرء لا مسافر ولا مقيم، فحوّل غربته وسكوته إلى ضوضاء مروعة مدمرة، وحرق الصالة، والجواز، وحقائب السفر، ثم طالب بالعودة إلى حضن الوطن!! وكان يجب أن يكون ذلك جريمة، لولا أن الجريمة صارت أسلوباً مرغوباً في الإعلام  و”مشهدية”!؟.

نحن من جيل تحمّل تبعات الماضي والحاضر، وتعاقبت عليه في كل يوم الفصول الأربعة، ولا أظنه للحظة كفر، بل بقي تلميذاً نجيباً في مدرسة السكوت، مكوماً مكدوداً في قعر زجاجة من ماء النار، إن فتح فمه مات، ويموت إن صمت، ولكنه صمت، لأنه أُفهم أن كلامه قد يضر بالوطن، لأن الأوان في غير أوانه، ولأن القرار مبني للمجهول، ولأن العمر استحال نبتة صبير صغيرة، وسط عالم لا يحتفي سوى بالتوليب! وكان يجب أن يكون ذلك جريمة، لولا أن ماء النار في بلادنا صار أسلوباً في التربية!!

وبما أني بدأت من الصفر، والصفر لا يقود إلا إلى صفر، خضنا الحرب ضد الظلام لمدة عشرة أعوام، وكان في البال، أن الطريق لا بد يقود إلى سورية العقل، العدل، الجمال، الفن، الحق، غير أن ما انتهت إليه الآمال: طوابير طعام، وتوسل دفء، وخوف دائم من الغد، وضباب يسد الأفق، ولا إجابة على سؤال، إن بقي هناك سؤال، سوى عبارة الجدات “الله يجمّل بالستر هذه الأيام”، وكان يجب أن يكون ذلك جريمة، لولا أن الجريمة في بلادنا صارت سيدة أعمال!!