مجلة البعث الأسبوعية

الحكاية كمفتاح للعلاج.. كم من غيوم صغيرة في مخيلة أطفالنا سريعة العطب!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

يقول الفيلسوف والمسرحي الروائي الألماني فريدريك شلير: “كنت أجد في قصص الجنّ التي تحكى لي في طفولتي معنى أعمق من الحقائق التي تعلمنا إيّاها الحياة”، فهل تستطيع الحكاية شفاءنا؟

الطفولة بسنواتها الغضة عمر عجيب مليء بالغرائب والأحلام الخيالية، لذلك من السهل أن نضع، في الثقافة الموجهة لأطفالنا في هذه المرحلة، كل ما نريد ونحب من أفكار ورؤى وخطط للمستقبل المنشود لهم؛ ومن ضمن هذه الرؤى القدرة على الشفاء: الشفاء من العبارات القاسية التي تمر أمامهم، والمفردات الصعبة والمستحيلة الفهم لخيالهم الغض، الشفاء من التنمر المعرفي الذي يمارس عليهم بحجة الإفراط في الخيال، الشفاء من المفاهيم والعبارات التي تدور في محيطهم ولا يقدرون على تحليل معانيها وفهمها بفكرهم الغض الخام؛ وحين يعجز كاتب قصة الأطفال ورسّام لوحاتهم أن يعبّر بطريقة سليمة عن هذه الرؤى، والإجابة عن هذه الأسئلة والمخاوف، ويعجز عن الطبابة بالكلمة واللوحة، فإنه يفتح باب غول ضخم من الخيال في ذهنية الطفل على ألف احتمال واحتمال؛ لذلك كان حرياً بنا جميعاً – المشتغلين في ثقافة الطفل – أن نتحلى بالصبر على الثقافة، أي الصبر على الاستزادة من مجمل العلوم ومجمل الطروحات والأفكار التي نريد التخصص فيها لأجل منهجنا الموجه للطفل.

مدمر بالنسبة لمخيلة الطفل أن تترك له الأسئلة الكبرى بلا أجوبة ناجعة شافية.. نحن لسنا ضد الخيال وإثارته، ولكن يجب أن يكون في النص واللوحة بذور الشك وإثارة الخيال بإطارات متعددة نريد له أن يلج عبرها، لا أن نترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لرياح الضياع.

كان من أبرز المخاطر الجديدة، في أسلوب إعطاء الدروس في مناهجنا الحديثة، أن يترك الباب مفتوحاً للطفل، لكي يلج إلى عالم التقانات ووسائل التواصل ومنصات الإنترنت، دون دليل أو مرشد واعٍ يدله على الطريق أو الأساليب الأمثل للدخول في هكذا مداخل للمعرفة – هذه واحدة من عشرات العثرات التي يمكن أن تفضي بأطفالنا إلى الدخول فيما يسمى “الاستخدام غير الآمن” و”الخطر جداً” في مجال التقانات.

ماذا يعني أن يُترك طفل وأهله قد لا يكون لهم الوقت الكافي لمتابعته أمام شاشة الحاسوب، وفضاء مفتوح الأبعاد للمصادر المتاحة لكل شي، بحجة أن يقوم ببحث عام عن موضوع لم يتم أصلاً تعريفه كيف يلج إليه، وكيف يبتعد عما يضره؟!

في الحكاية، هناك من يكتب القصص لمجرد ملء الفراغات بين السطور، ويشرّق ويغرب بفكرته، بلا هدف يُرجى إلا “ملء الوقت” – على حد زعمه – بالقراءة.. يا سادة!! كما أن هناك كلمات مقدسة فإن هناك تعاليم مقابلة للشيطان!!

 

العلاج باكراً

كلنا تربينا في أسرة تمتد الحكاية في وجدانها عبر الزمن عميقاً نحو الأزل، مع لحظة النزول الأول من جنة عدن إلى هذه الأرض، حيث قيل لنا في الحكايات الأولى – وما زال يقال – أن الثمرة الأولى التي عانى آدم ليصنع منها أولى أسس الحضارة كانت حبة القمح – فكانت رحلة صناعة الرغيف – التي علمته الملائكة كيف عليه أن يحفر لها تختاً عميقاً في التراب، وأن يصبر، ثم يغطيها بالماء والطين، ثم عليه أن يصبر لتنمو، ومن بعدها صبره لكي تنضج حباتها كسنبلة، وبعده صبر أطول لكي تحمصها الشمس، وتيبس في سنبلتها، ثم يستخرجها براحتيه، ويفركها، ويأخذ بذرها، ليبدأ صبر صرير الرحى، ويطحنها ويعجنها ليشويها على النار، ويمسك بيده الرغيف الأول.. هذا الصبر في الحكاية كان ككشف الطبيب عن علل الروح في جسدنا، نستزيد من رغيفه الأول، ومن حكاية الصبر الأولى.

كلنا لدينا ذاك الجلد في الجلوس أمام الحكاية، أكان ذلك في قاعة للسينما أمام فيلم طويل، أم في صالة أمام مسرحية متعددة الفصول، أم أمام التلفاز والمجلة والكتاب والقصة المصورة! كان كل موقف نتعرض له، ونحن صغار، يشكل في عقلية الأب والأم، فوراً، بذرة حكاية يدعمانها بالخيال والمفردات المستمدة من محيطنا، ومن ثم خاتمة تشكل العلاج الناجع للمشكلة التي نتعرض لها، فنكون بذلك أبطال حكايات، صاغتها قريحة والدينا، لمساعدتنا في تجاوز المعضلة الكبرى المتعلقة بالحدث الذي جرى لنا في ذلك اليوم؛ فلتنمر الزميل في المدرسة هناك حكاية عن البطل المقدام والمغامر والجسور الذي يجب أن نكونه، وللخوف من الزوايا المعتمة، ومن صوت الرعد ولمع البرق وطقطقة المطر على أسقف الصفيح، هناك حكاية عن بطل يتحلى بالشجاعة ولا يخشى الغول.

وللخجل وللتردد وللتلعثم في الكلام، ولفقدان الشهية لنوع من الطعام، والعديد العديد من المشاكل التي تعرضنا لها في طفولتنا، كان دائماً وأبداً هناك مصنع ودار نشر ووزارة ثقافة خاصة تجول في خاطر والدينا، تنفذ لنا أفضل الحبكات والسيناريوهات لقصص ناجعة وهادفة تمثل نواة العلاج الأولى في أدب الطفل.

تقول صوفي كاركان – الصحفية اللامعة في الفيغارو: “إن الولد الذكي يعالج نفسه بنفسه”!!

علينا فقط إذاً أن نضع في طريقه أسلحة وعقاقير العلاج، على شكل مجلات وقصص وكتب ذكية ولمّاحة تساعده على عبور عتبات العقد النفسية قبل أن تتشكل في خلده، وتصبح أمراضاً نفسية مزمنة في المستقبل.

تقول كاركان أيضاً: “للمواضيع الأكثر إيلاماً، كالموت أو المستشفى، من الأفضل الاستعانة بحيوانات، أو شخصيات خرافية: أرنب، فأرة، غيمة صغيرة أشبه بالقط وسريعة العطب”.

وما أكثر الغيوم الصغيرة التي تشكلت في قلوب ومخيلة أطفالنا في هذه السنوات الماضية القاسية، وكم كانت سريعة العطب، فماذا أنتم فاعلون؟