اقتصادصحيفة البعث

جرائم متخفية خلف نصاعة “الياقات البيضاء”.. فصل دعوى غسل أموال واحدة بدمشق والمخفي أعظم!!

دمشق- ريم ربيع

رغم التخوف المتزايد من انتشار جرائم غسل الأموال بعد ما أفرزته الحرب من أثرياء ومتمولين بطرق غير مشروعة، إلا أن كشف هذا النوع من الجرائم لايزال إحدى أصعب المهام لغياب الأثر المادي لها، وصعوبة تتبعها، فهي تشكّل تحدياً حقيقياً للمؤسسات المالية والرقابية والقضائية لكشفها ومتابعتها، وفي حين سجلت في دمشق 13 دعوى غسل أموال في 2020، إلا أن أغلبها لم يفصل بعد لعدم استكمال الإجراءات، وما تتطلبه هذه الدعاوى من وقت وجهد لفصلها.

صعوبة تتبع

هي واحدة من جرائم “أصحاب الياقات البيضاء”، هكذا توصف جريمة تبييض الأموال، نظراً لكون مرتكبيها في أغلب الأحيان من ذوي المكانة المرموقة في المجتمع، لاسيما اقتصادياً، ما يزيد من صعوبة كشفهم أضعافاً مضاعفة، فمن السهل اليوم أن تُطلَق أحكام عامة، كأن يشار لفلان بأنه اشترى عشرات العقارات الفخمة لتبييض أمواله، وفلان الذي افتتح شركة لم تنتج سوى الوهم، وآخر أطلق نشاطاً خيرياً بلا هدف أو مستقبل واضح، إلا أن كل هذا لا يتعدى العموميات دون دليل ملموس، وهنا نشير إلى ما سمعناه في القضاء من إمكانية تسجيل عشرات الدعاوى دون وجود أية أدلة على ارتكاب المشتبه به لجرم غسل الأموال، فيبقى المتهم بريئاً إلى أن تثبت إدانته، أي أنه حتى عدد الدعاوى ليس بمعيار لمعرفة زيادة أو نقصان هذه الجريمة في المجتمع، وتجدر الإشارة هنا إلى الإحصائيات القائلة بأن 59% من جرائم الياقات البيضاء عالمياً لا يتم اكتشافها، و5% فقط ممن يتم اكتشافهم هم من تثبت إدانتهم.!

المخلّص!

تطال المخاطر الناتجة عن غسل الأموال غير المشروعة جميع نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إذ يوضح قاضي التحقيق المالي بدمشق فؤاد سكر أن المشاريع والأنشطة التي يتم غسل الأموال من خلالها تعطي في بدايتها انطباعاً جيداً بأنها المخلّص من الأزمات الاقتصادية التي تعيشها الدول الفقيرة بسبب ما يرافقها من إنفاق أموال كثيرة، وتشغيل الأيدي العاملة، ورفع مستوى المعيشة، لكن هذه النتائج الإيجابية آنية وغير مستمرة، وسرعان ما تزول لتحل محلها النتائج الحقيقية لعمليات غسل الأموال، فغاسل الأموال من خلال المشاريع الاقتصادية التي يقوم بها تمهيداً لجرمه، ليس له إلا هدف واحد وهو تغيير صفة عدم الشرعية لأمواله، وبمجرد أن يتحقق هذا الهدف يعمد إلى إعدام هذه المشاريع والأعمال بشكل مفاجىء، فتحدث فجوة اقتصادية نتيجة سحب مبالغ ضخمة من التعامل، وتسريح الأيدي العاملة التي تتحول بين ليلة وضحاها من أيد منتجة لأيد عاطلة عن العمل.

تضييق نطاق

بحسب قانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب فإن الأموال غير المشروعة هي تلك المتحصلة أو الناتجة بشكل مباشر أو غير مباشر عن ارتكاب جرائم حُددت بـ 14 بنداً فقط من بينها: “زراعة أو تصنيع أو تهريب أو نقل المخدرات، جرائم الإرهاب وتمويله، تهريب الأسلحة النارية أو صنعها، نقل المهاجرين بصورة غير مشروعة، الدعارة المنظمة والإتجار بالأشخاص، سرقة واختلاس الأموال العامة أو الخاصة، تزوير العملة، سرقة الآثار، الرشوة والابتزاز، التهريب، الاحتكار، القتل أو إحداث عاهات بدنية دائمة، الإتجار بالسلع المسروقة، الإتجار غير المشروع بالسلع والقطع الأجنبي، التهرب الضريبي”.

وهنا يؤكد القاضي سكر أن الأموال المتحصلة عن أية جريمة أخرى غير المذكورة لا يمكن قانوناً اعتبارها غير مشروعة بهذا المعنى، ولا تصلح كي تكون محلاً لجريمة غسل الأموال، مبدياً تحفظه على اتجاه المشرع السوري لاعتماد أسلوب تضييق نطاق محل جريمة غسل الأموال، وجعله مقتصراً على متحصلات عدد من الجرائم دون غيرها، باعتبار أن جميع الأموال التي تنتج عن أية جريمة هي في حقيقتها أموال غير مشروعة طالما أنها ناتجة عن عمل مجرّم بنص القانون.

صعوبة الكشف 

وفيما بلغ عدد الدعاوى التي قيدت في عام 2020 لدى دائرة التحقيق المالي بدمشق 13 دعوى، يكشف سكر في حديثه لـ “البعث” أنه لم تُفصل سوى دعوى واحدة، والعمل جار على فصل ما تبقى عند استكمال الإجراءات التحقيقية اللازمة بكل دعوى على حدة، مشيراً إلى الصعوبة البالغة في كشف جريمة غسل الأموال، فهي ليست كغيرها من الجرائم التقليدية التي تظهر للعالم الخارجي بمظهر مادي واضح، والتي يستطيع أي شخص- وإن كان غير عارف بالقانون- أن يلحظها ويبلغ هيئة مكافحة غسل الأموال عنها، إذ لا يوجد في جريمة غسل الأموال أثر مادي ملموس، وهي عبارة عن قيام الفاعل بممارسة نشاط مالي أو مصرفي أو استثماري يوحي لمن ينظر إليه بأنه عمل مشروع، ما يؤدي لعدم اكتشاف الكثير من جرائم غسل الأموال التي يمكن أن ترتكب على مدار الساعة، وإفلات مرتكبيها من العقاب.

الغرم بالغنم

وفقاً للقانون فإن عقوبة غسل الأموال تتضمن الاعتقال المؤقت من 3 – 6 سنوات، وغرامة تعادل قيمة الأموال المضبوطة أو غرامة تعادل قيمتها في حال تعذر ضبطها، وبكل الأحوال يجب ألا تقل عن مليون ليرة، وهذه العقوبة الجنائية تطال كل من قام أو تدخل أو اشترك بعمليات غسل أموال غير مشروعة، وشدد المشرع العقوبة من الثلث إلى النصف مع مضاعفة الغرامة السابقة في حال ارتكب الجرم في إطار عصابة إجرامية منظمة.

وبرأي قاضي التحقيق المالي فإن المشرع قد انتهج في السياسة العقابية التركيز على العقوبات المالية التي تطال مرتكب جرم غسل الأموال، انطلاقاً من القاعدة القائلة (الغُرم بالغُنم)، لاسيما أن فاعل هذه الجريمة يكون هدفه الأكبر السعي لتحصيل الأموال الناتجة عن الجرائم التي تعد محلاً لها ليصار له فيما بعد تغيير صفة عدم مشروعيتها وجعلها أموالاً مشروعة، وبالتالي فإنها تحقق الردع العام والخاص.

تعديلات

ويشير سكر إلى أن إدارة التشريع في وزارة العدل عقدت عدة اجتماعات مع ممثّلي هيئة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتمت مناقشة الملاحظات اللازمة حول مشروع الصك التشريعي المتعلق بتعديل قانون مكافحة غسل الأموال، وخلص المجتمعون إلى صيغة نهائية معدلة للمشروع مع أسبابه الموجبة، وتم إعداد جدول مقارنة بين النص النافذ والنص المقترح، والعمل جار لعرضه على مجلس الشعب لإقراره.