ثقافةصحيفة البعث

“الخطاب الفكري في الدراما السورية” كتاب لـــ نزار إبراهيم

ليست بالكثيرة أو حتى المتنوّعة، هي الكتب النقدية التي تخوض في الشأن الدرامي المحلي، لجهة قراءة الأعمال الدرامية التلفزيونية المحلية، قراءة نقدية شافية، تخوض في شكل ومضمون هذه الأعمال، التي حقّقت في مرحلة ليست بالبعيدة زمنياً، انتشاراً واسعاً على امتداد العالم العربي. وواقع الحال أنه لا يمكننا القول حتى اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على انطلاق هذه الدراما، إن لدينا حالة نقدية موضوعية، رافقت هذا التقدم الإنتاجي والوفرة التي وصلت ذروتها منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى السنوات الأولى من مطلع الألفية الثانية، عندما بدأ صُنّاع هذه الدراما -إلا قلة- بالانصياع لما تطلبه السوق العربية من أعمال درامية، لا مضامين درامية فعلية تنطوي عليها، مع التركيز الشديد على بهرجة الشكل، الذي أصبح هو الطاغي على طبيعة هذه الأعمال، مع نسف يكاد يبدو ممنهجاً للخطاب الفكري لهذه الدراما، الأمر الذي دفع بالدكتور “نزار إبراهيم” للخوض في هذا الأمر، وذلك في كتابه الصادر عن دار التكوين تحت عنوان: “الخطاب الفكري في الدراما السورية”، وهو يخوض في الفترة الزمنية الممتدة منذ بدايات دوران عجلة الصناعة الدرامية التلفزيونية، وما قدمته من مسلسلات تلفزيونية، وحتى عام 2011.

يوضح إبراهيم في بداية الكتاب، أن الدراما التلفزيونية تعدّ في الوقت الحاضر، واحدة من أهم وأخطر أنساق الحراك الثقافي تأثيراً في العقل الجمعي في المجتمعات العربية على وجه الخصوص، ويعود هذا حسب رأي الكاتب، إلى الخصوصية المتفردة التي تتمتّع بها في حمل ونقل الأفكار وإدخالها أو غلغلتها أو تسريبها إلى عقل الجماعة، فالدراما كما يصفها: “هي ناقل أو حامل من النوع المميز وعالي الجودة للأفكار والمقولات من المصدر إلى المتلقي”، والدراما التلفزيونية طغى انتشارها طولياً وعرضياً في المجتمعات العربية والعالمية، حتى استطاعت التفوق على الكتاب والقصيدة، المسرح والسينما، ومختلف الفنون التي ذوى ألقها من جهة الانتشار والوصول للناس، مقارنة بما حقّقته الدراما التلفزيونية من انتشار ووصول للمتلقي، وهذا يعود وفق الكاتب إلى مجموعة من العوامل التي تتميّز بها الدراما التلفزيونية كفاعلية ونشاط ثقافي، عن غيرها من الأنشطة والفعاليات الثقافية، ومن هذه المميزات التي يدرجها في مؤلفه: الدراما التلفزيونية وسيلة اتصال وتواصل جماهيرية سهلة ومريحة ولا تتطلّب بذل الجهد والعناء من المتلقي، فهي تأتيه بأفضل وأسهل الطرق من حيث الوقت والشكل والحالة، كما أن الحامل الفني للأفكار (تكنيك العمل) يُسهّل وصول مضامين العمل ومقولاته، أي أفكاره وما يرمي إليه، إلى عقل ومزاج المشاهد، كما أن هذا النوع من النشاط الفني الثقافي، يتيح الاستسهال في الإعادة والتكرار، فالمشاهد يمكنه أن يعيد مشاهدة العمل الدرامي التلفزيوني أكثر من مرة، في الوقت الذي تتطلّب فيه قراءة كتاب أو رواية أو حتى مقالة صحفية بعض التركيز والجهد الذهني وحتى الجسدي، وبناءً عليه فإن التطوير الدائم في التكنيك الفني، يرمي في طبيعته الفعلية، للوصول إلى المزيد من الاستسهال والإثارة، والإمتاع لتوصيل الأفكار وتمريرها.

الدراما التلفزيونية نشاط ثقافي أم صناعة؟ واحد من الأسئلة المهمة التي يطرحها الكتاب، لمعرفة وتحديد ما إذا كان الفعل الدرامي التلفزيوني، فعلاً ثقافياً أي حالة ثقافية، وهل يمكن أن تندرج ضمن إطار الحراك الثقافي وأنشطته وتكوينه؟ أم أنها منتج صناعي سلعي، تخضع بشكل أساسي لمنطق الإنتاج الصناعي السلعي، الذي تدخل فيه مكوّنات وعوامل ثقافية؟ وهنا يعود المؤلف إلى نشأة التلفزيونات الوطنية في البلدان العربية، وفي كلّ من مصر وسورية مطلع الستينيات، وللسمات التي وسمتها في تلك المرحلة، ومنها: العداء للإمبريالية العالمية والاستعمار بكل أشكاله، العداء القوي والمبدئي للكيان الصهيوني، اعتبار القضية الفلسطينية من أولويات الكيانات السياسية العربية، أيضاً ما لعبه التحول الاشتراكي في المنطقة، بعد اعتماده منهجاً وطريقاً اجتماعياً تحررياً، وما حمله من قيم عديدة، كان أهمها تبني قضايا الفقراء والكادحين، والعمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، ووفق هذه السمات العامة التي ترافقت ونشوء التلفزيونات الوطنية، تشكلت الفعاليات الدرامية ضمن أنشطة كلّ من التلفزيونين السوري والمصري، عندما كانت في بداياتها مشروعاً وحالة ثقافية من جهة الشكل والمضمون، لتستمر هذه الحالة لحوالي العقدين من الزمن، شهدت خلالها “المشهدية” الدرامية نمواً وتطوراً ملحوظين، إن كان على مستوى الشكل الفني أو العمق الفكري، لتبدأ بالتراجع والقهقرة شيئاً فشيئاً مع انحسار المشروع الثقافي في الدراما التلفزيونية لمصلحة العمل السلعي.

ينقسم كتاب “الخطاب الفكري في الدراما السورية” إلى قسمين، الأول يحمل عنواناً عاماً “مقدمات نظرية” ويتضمن مجموعة من العناوين المهمة التي يخوض فيها المؤلف وبتسلسل واعٍ ومدرك لطبيعة العمل الدرامي التلفزيوني، أهميته وأثره، من هذه العناوين: الدراما السورية/ الدراما التلفزيونية نشاط ثقافي أم صناعة؟/ كيف ولماذا جرى التحول من الثقافي إلى السلعي/ منظومة أو حالة النهوض الوطني والقومي والتحرر العربي/ منظومة أو حالة ما بعد اتفاق كامب ديفيد وحتى أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001/ منظومة أو مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول 2001 وحتى نهاية عام 2011، أما القسم الثاني فقد حمل عنوان: “معالجة تحليلية” وفيه قراءة للعديد من الأعمال المحلية التي طافت شهرتها الآفاق ومنها: “باب الحارة” بأجزائه الخمسة/ رجال العز/ الزعيم/ الولادة من الخاصرة/ صبايا/ وغيرها من الأعمال الدرامية التلفزيونية، التي حققت انتشاراً محلياً وعربياً.

يمكن القول إن الكتاب آنف الذكر، هو من الكتب النقدية القليلة التي تذهب نحو تشريح الحالة الدرامية التلفزيونية المحلية بأهم محطاتها، وما كان لما تضمنته من مسلسلات، من أثر في تشكيل مشهد درامي محلي جديد، مغاير تماماً لما سبقه من جهة الشكل والمضمون.

تمّام علي بركات