دراساتصحيفة البعث

أمريكا من المحورية إلى التعددية

د. سليم بركات

كل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى في حالة من الانحدار لأسباب متعددة، منها: فشل النظام السياسي الأمريكي في قدرته على إدارة الدولة، تدهور الديمقراطية، والانحياز الكامل لجانب الكيان الصهيوني، واضطراباتها الاقتصادية، وارتفاع معدلات الجرائم الداخلية، والتمييز العنصري، وفشلها في مواجهة وباء كورونا، والحبل على الجرار… ومن ينظر إلى الانتخابات الأمريكية الأخيرة يجد أن القيادات الأمريكية قد أوقعت المجتمع الأمريكي بدوامة قد لا تنتهي آثارها في القريب العاجل.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو، ماذا يقال عن أي دولة تعاني ما تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم؟، سؤال لا يمكننا الإجابة عنه من خلال إدانة سياسة الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” أو من خلال معالجات مبتورة قد يقوم بها الرئيس الحالي “بايدن” وإنما يمكن الإجابة عنه من خلال سلوك إداراتها المتعاقبة منذ استقلالها وحتى يومنا هذا، سلوك طغت عليه سياسة المصالح والحروب، والبلطجة، وقوة القهر والعدوان التي تئن تحت وطأتها شعوب المعمورة كافة.

الواقع الأمريكي يسعى للتخلص من التجربة الترامبية المرة المعطلة للدولة على مستويات متعددة، بسبب رداءتها، وعدم كفاءتها، التي تدفعها باتجاه تغيير الأمور، والحقيقة: إن المشكلة الأمريكية أكبر بكثير من مشكلة رجل واحد، لأن ما تعانيه يحتاج إلى معالجة جذرية، وعلى عدد من الجبهات، كي يكون الانسحاب من دوامة الانحدار الخطرة التي وضعتها إدارة “ترامب” فيها، معالجة يأتي في طليعتها الرد الحاسم على اقتحام الكونغرس الأمريكي من قبل أنصار “ترامب” وبالقدر المتناسب والمستوى الذي يحافظ من خلاله على ممارسة الديمقراطية التي تدعيها الولايات المتحدة الأمريكية، كيف لا والولايات المتحدة الأمريكية تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى قوانين رادعة في مواجهة الإرهاب الأمريكي الداخلي، الممثل بأولئك الذين هاجموا مبنى” كابيتول” في 6 كانون الثاني من العام الجاري، قوانين صارمة في مواجهة الإرهابيين الأمريكيين المتعاملين مع التنظيمات الإرهابية داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، كتنظيم “القاعدة” و”داعش” و”جبهة النصر” وغيرها من التنظيمات الإرهابية المصنفة إرهاباً من قبل الأمم المتحدة. قوانين صارمة  تأخذ بعين الاعتبار الممارسات الصهيونية الإجرامية ضد الشعب العربي الفلسطيني، بناء على توصيات منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية الدولية، أكان ذلك من خلال الحصار المفروض على غزة، أم كان ذلك من خلال الاستيطان في القدس، وفي الضفة الغربية، أم كان ذلك من خلال الهدم والترحيل القسري للفلسطينيين داخل وخارج وطنهم فلسطين.

من هذا الواقع المرير الممارس أمريكياً وإسرائيلياً على شعوب العالم وفي الطليعة الشعب العربي الفلسطيني، نستطيع أن نتبصر رحلة الهبوط الأمريكية كقوة عظمى على مستوى العالم، بسبب فساد الإدارات الأمريكية وفي طليعتها إدارة “ترامب” وعدم كفاءته طيلة فترة وجوده في البيت الأبيض، نستطيع أن نتبصر حق محور المقاومة الممتد من إيران حتى فلسطين عبر سورية ولبنان في مواجهة التحالف الأمريكي الصهيوني الرجعي،  أكان ذلك من خلال امتلاك هذا المحور للأسلحة الدقيقة التي تستهدف العمق الإسرائيلي بما في ذلك الصواريخ الموجهة، أم كان ذلك فيما يخص الرد الحاسم على الضربات العسكرية الأمريكية الإسرائيلية الموجهة في سورية والعراق المنتهكة للقوانين الدولية، أم كان ذلك فيما يخص الدعم الروسي والصيني لمحور المقاومة في مواجهة التحالف الأمريكي السعودي الإسرائيلي التركي وأدواته من “داعش” وغيرها  من التنظيمات الإرهابية، والذي لا يمكن أن يفهم سوى أنه عدوان أمريكي ضد الإنسانية يستهدف شعوب الأرض جميعاً.

كل هذا وغيره يؤكد بداية رحلة الهبوط الأمريكية من دولة محورية تتحكم بالعالم إلى دولة تدخل في إطار التعددية الدولية، ونحن لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن الولايات المتحدة الأمريكية من خلال وضعها الراهن، لم تعد الدولة الأقوى والأولى في العالم سوى في عدد المساجين والإنفاق على التسليح، كما لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تلفها أزمة سياسية واقتصادية محرمة على الحوار في الداخل الأمريكي، حتى لا يكون الاعتراف فيها كحقيقة، ويكون نقاشها خيانة وطنية. زد على ذلك عدم اعتراف الإدارة الأمريكية بأنها ليست من أوائل دول العالم من حيث البنى التحتية، ولاسيما الطرق والجسور والأنفاق وسكك الحديد والمطارات كغيرها من الدول المتقدمة المتطورة، هذا بالإضافة إلى افتقارها للقدرات المالية وللشجاعة السياسية، وللإدارة الاجتماعية لمثل هذه البنى.

إذا قارنا ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية  منذ 150 عاماً فيما يحدث اليوم وجدنا أن هذا الانقسام قد عاد باتجاه الأقوى من ذي قبل، وإن كان الوضع قد تغير نحو الأفضل في القرن العشرين، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت أمريكا كدولة قوية، لا بل كأقوى دولة على مستوى العالم، لكن الوضع تغير في القرن الواحد والعشرين، حيث الانهيار الأمريكي بفعل الانحدار الاقتصادي الناتج عن الليبرالية الجديدة، والتي جعلت من “وول ستريت” مركز الاقتصاد العالمي، وسببت خسارة ملايين الأمريكيين لبيوتهم وأعمالهم، هذا بالإضافة إلى تفكيك المجتمع الأمريكي الذي نشهده اليوم، وتشهد عليه المشاجرات السياسية التي تحدث ما بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري، زد على ذلك خسارتها مجمل حروبها على مستوى العالم، بحيث لم يسجل لها انتصار واحد بمفردها دون تحالفات في هذه الحروب، وهل نجانب الصواب إذا قلنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تشهد اليوم تراجعاً في مجالات هامة صناعية وتكنولوجية يسبقها فيها الآخرون، كالصين، وروسيا، وغيرهما من الدول الأخرى.

لقد كان الرئيس الأمريكي “أوباما” صادقاً مع نفسه ومع الشعب الأمريكي عندما قال:”إن أمريكا لا تستطيع إرسال جنودها لإشعال الحروب في الخارج” وبالتالي أليس هذا الاعتراف بداية لنهاية الدور الأمريكي العسكري على مستوى العالم لأسباب اقتصادية، ومن ثم ألا يثير هذا الاعتراف حفيظة الملتصقين بالماضي الأمريكي الزائل.

من يتابع بشغف تصرفات الإدارات الأمريكية المتعاقبة ولاسيما في عهد الرئيس الأمريكي “ترامب” يجد صلة أو وجه شبه بين حالها الراهنة في النظام الدولي المعاصر، وحالها في النظام الدولي أواخر القرن الثامن عشر، وهذا واضح من خلال ثلاثة مآزق وقعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، الأول المأزق الدستوري الديمقراطي، والمقصود فيه مجمل التطورات التي وقعت في الحياة السياسية الأمريكية، ولاسيما تصرفات الطبقة السياسية البيروقراطية عبر السنوات الأخيرة، والتي تجسدت في شنّ الحروب الخارجية التي عرّضت الشعوب والدول للانتهاكات والأخطار، متجاوزة بذلك المبادئ الديمقراطية التي يدعيها النظام الأمريكي الحاكم، وأغلبها تجاوزات وخروقات أدانتها الشرعية الدولية. والثاني المأزق الحضاري والذي اجتمعت فيه عدة مؤشرات على التراجع الأمريكي على الصعيد التربوي والتعليمي، وعلى صعيد التقدم التكنولوجي أيضاً بالمقارنة مع ما حققته دول أخرى وعلى رأسها الصين. والثالث هو المأزق الأمني والذي كان منذ سنوات قليلة لا يجادل في تفوقه أحد، لكنه اليوم يدخل في مناقشات جادة تدور حول  الفجوة التي تفصل بين القوة الأمريكية والقوى الدولية الأخرى كروسيا والصين مثلاً، ومن المؤكد أن أمريكا لم تعد الدولة القائد بلا منازع في إدارة أحلافها الخارجية، وفي القدرة على تمويل هذه الأحلاف، ومن المؤكد أيضاً أن التقصير في إدارة حروبها الخارجية هو الطاغي، مثل حربها في أفغانستان، وحملاتها ضد الإرهاب كما تدّعي في الشرق الأوسط، زد على ذلك عجزها عن حماية الديمقراطية، وتخليها عن قيادة النشاط الديمقراطي، وكلها حالات تشير إلى انحدارها كقوة عظمى على مستوى العالم.

كل هذا وغيره من متغيرات على الصعيد الأمريكي يؤكد أنماط السلوك الأمريكي البائس في العلاقات الدولية، كما يؤكد علامات انحدار القوة الأمريكية على مستوى العالم، ولاسيما في أقاليم تدعي الولايات المتحدة الأمريكية حمايتها، فهل نجانب الحقيقة  إذا قلنا أن العلاقات القائمة على الندية  بين أمريكا من جهة، وبين روسيا والصين من جهة أخرى هي من أنواع علاقات الإحلال أو شغل الفراغ المترتب على الانسحاب الأمريكي من مناطق متعددة في العالم، والذي كان يجري برضى الأطراف الأهم في عمليات ترتيب الشرق الأوسط من جديد، إلى أن عادت ونشطت “إسرائيل” التي نجحت في التوظيف الأمثل لأغنياء اليهود ممن تولوا “صفقة القرن” كممثلين لـ “إسرائيل” وأحياناً لأمريكا. ولن نختلف مع الخبراء الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط ممن علّقوا على صفقة القرن والعجلة التي تمت بها، قائلين أن “إسرائيل” قارئة جيدة للواقع الأمريكي، بمعنى أنها أدركت أن لا حلول قريبة للمشكلات الأمريكية لأن حلولها تحتاج إلى سنوات لتؤدي أدواراً جديدة ولتملأ فراغات عديدة، ما يعني وجود أزمة أمريكية متفاقمة لا حل قريب لها.

بقي أن نقول: إن السياسة الأمريكية في عهد “ترامب” كانت فاشلة على مستوى العالم إلا في الوطن العربي حيث نجحت في إذلال البعض من الحكام العرب، وسوقهم كالقطيع إلى مصيدة التطبيع مع “إسرائيل”، في الوقت الذي كانت فيه نهايته السياسية نهاية لعصر الكذب والإثارة والمغامرات السياسية وفرض العقوبات، وتحريك حاملات الطائرات والغواصات، ومن ثم لن يشكل مجيء “بايدن” مرحلة الترميم لأمريكا المنهارة، والغامضة مستقبلاً، والمهزومة الهوية والسمعة، والفاقدة للثقة داخلياً وخارجياً؟ وبالتالي مطلوب من أمريكا أن تغير سلوكها تجاه أنظمة دول العالم بدلاً من أن تطالب هذه الأنظمة في تغيير سلوكها، كي تنقذ نفسها من هزائم الداخل و الخارج. والأهم من كل هذا هل يستفيد العرب مما يجري في أمريكا ولأمريكا  لينقذوا أنفسهم وهم يأخذون بالاعتبار أن الثابت الوحيد في السياسة الأمريكية والذي ما زال قائماً وهو الالتزام العقائدي بالمشروع الصهيوني كسياسة أمريكية إستراتيجية.