مجلة البعث الأسبوعية

إسرائيل والبحر الأحمر.. توسيع النفوذ الصهيوني في أفريقيا واستكمال ترتيب العلاقات مع أنظمة التطبيع في الخليج

“البعث الأسبوعية” ــ محمد نادر العمري

منذ قرابة عقد على الأقل، أصبحنا أمام أبواب نظام دولي جديد، وأمام متغيرات إقليمية ما زالت متفاعلة في الشرق الأوسط، وقد تؤدي إلى اصطفافات وتحالفات جديدة، خلقتها أو عززتها أحداث ما سمي بـ “الربيع العربي” من حروب أو انقلابات داخلية أو اعتداءات خارجية، هزت أركان النظام العربي الذي كان سائداً حتى السنوات الأخيرة، كما هزت أركان النظام في المنطقة عموماً.

وفي ظل هذه الظروف الجديدة برزت إلى السطح أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية الإقليمية والدولية، بصفته أحد أهم الممرات المائية في العالم إن لم يكن أهمها، فهو يربط بين المحيطين الهندي والأطلسي عبر البحر المتوسط، كما يربط بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتقع في محيطه مصادر الطاقة الأساسية في العالم، والتي لا تتحرك عجلة الاقتصاد من دونها، ويمر فيه سنوياً أكثر من 21 ألف سفينة تجارية، وأكثر من 2 مليار برميل من النفط؛ الأمر الذي دفع الباحثين الاستراتيجيين لتبني شبه توافق على أن من يسيطر على البحر الأحمر يسيطر على أحد أسس الاقتصاد العالمي، ومع ظهور بوادر لنشوء نظام دولي أو إقليمي جديد، تتحفّز القوى الفاعلة للعمل والاستيلاء على مواقع القوة ومصادرها، سواء كانت إقليمية أو دولية.

 

على الصعيد الدولي

أدركت الولايات المتحدة بعد أزمتها الاقتصادية، في العام 2008، القوة الاقتصادية الصاعدة لكل من الصين والهند، كما لاحظت الحضور والنفوذ الصيني المتصاعد في أفريقيا، ففي حين بلغت التجارة الأميركية مع أفريقيا في عام 2000 ما مقداره 38 مليار دولار، بلغت قيمة التجارة الصينية مع أفريقيا 10 مليارات دولار، ولكن هذا الميزان تغير خلال فترة وجيزة، ليبلغ بلغت التجارة الأفريقية مع أميركا 126 مليار دولار، في العام 2011، ، ولكن الصين تخطتها إلى 166 مليار دولار، فكان رد أميركا باتخاذ قرار استراتيجي لتعزيز قواتها في حوض البحر الأحمر، والمضي بحملة دبلوماسية هجومية في أفريقيا ضد الوجود الصيني المتعاظم. في حين امتلكت إيطاليا واليابان قواعد عسكرية على شاطئ جيبوتي، أعلنت الصين مع بداية العام 2016 الاتفاق مع جيبوتي لاستضافة أول قاعدة عسكرية صينية خارج بحر الصين.

 

على الصعيد الإقليمي

في سياق التنافس الاستراتيجي الإقليمي، عملت إسرائيل على استعادة نفوذها في أفريقيا عند شواطئ البحر الأحمر ووسط أفريقيا، وقد باتت الظروف ناضجة لحصول ذلك بعد غياب ليبيا وعجز مصر علن التأثير في القرن الأفريقي، كما عهدناها خلال عقود مضت، فـأنشأ الكيان الإسرائيلي لنفسه قواعد عسكرية في أريتريا وإثيوبيا وكينيا ودول أخرى في وسط أفريقيا، كما استأجر جزر حاليب وفاطمة وسنتيان وديميرا، وأقام قواعد عسكرية له، إلى جانب قاعدة أخرى في ميناء “مصوع” عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. وفي وقت لاحق، وصلت “إسرائيل” بواسطة الإمارات إلى جزيرة سقطرى، لإقامة قاعدة عسكرية فيها.

كما أقامت السعودية في آذار 2016 قاعدة عسكرية في جيبوتي، مقابل الموانئ اليمنية التي سيطر عليها أنصار الله؛ وفي نيسان 2016، حصلت السعودية من مصر على جزيرتي تيران وصنافير، مع الإشارة إلى وجود مصلحة إسرائيلية في ذلك.

وكانت الإمارات قد سيطرت على موانئ يمنية ومواقع استراتيجية، من ضمنها جزيرة سقطرى والقاعدة العسكرية “ميون” الواقعة بين اليمن وجيبوتي، وحولت ميناء “المخا” اليمني إلى قاعدة عسكرية أيضاً، إضافة إلى القاعدة العسكرية لأبو ظبي في بربرة، عاصمة الصومال، وأخرى في أريتريا أُنشئت في عام 2015. وفي جيبوتي، استأجرت الإمارات منشأة هاراموس القريبة من قاعدة عسكرية أميركية.

من جهتها، حصلت تركيا على اتفاق مع السودان، برئاسة عمر البشير آنذاك، في كانون الأول 2017، لإقامة قاعدة عسكرية على جزيرة سواكن في البحر الأحمر، حتى بلغت إيرادات جيبوتي، البلد الصغير، (830 ألف نسمة)، ما قيمته 160 مليون دولار سنويا ًمن هذه القواعد.

ويمكن التماس الرؤية الاستراتيجية الخاصة بالكيان الإسرائيلي حول البحر الأحمر، من خلال الإطلاع على ما نشرته مجلة “معرخوت” العسكرية، بمقالها المطول، في آذار 2013، للباحثين الاستراتيجيين بروف أرنون سوفير المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة، والدكتور أنطون بركوفسكي من جامعة حيفا، وادعيا فيه “أن حوض البحر الأحمر وحوض الخليج العربي اللذين كانا على هامش الاستراتيجية الإسرائيلية يقتربان ليكونا في مركز الاهتمام الاستراتيجي لإسرائيل، بسبب أهميتها الاقتصادية والجيوسياسية”.

وكتب هذا المقال ونشر في ظروف اعتقد فيها الإسرائيليون وغيرهم بأن المنطقة ذاهبة إلى التقسيم إلى دويلات طائفية، أما حرية الملاحة البحرية والجوية للكيان الإسرائيلي في حوض البحر الأحمر فتتيح لها نفوذاً عسكرياً ومدنياً في أفريقيا وباقي دول الحوض، وما استيلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي على سفينة “كارين اي” في عام 2002، وهي محملة بالأسلحة الإيرانية للمقاومة الفلسطينية، سوى تأكيد على أهمية ذلك.

وعلى الرغم من الأهمية الدولية لحوض البحر الأحمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنها ترى نفسها مضطرة إلى تعزيز قوتها بالقرب من الهند والصين، وقد أمنت وجود حلفائها وأتباعها ونفوذهم في حوض البحر الأحمر، لكن ما ينقص ذلك هو ترتيب العلاقات بينهم، وخصوصاً بين تل أبيب وعواصم القرار في دول الخليج العربية، لذلك كان أحد أبرز أهداف إدارة ترامب هو إظهار التطبيع وتحويله من السر إلى العلن، بل إلى علاقات رسمية، وذلك لكي تكون التحالفات ضد إيران رسمية وقانونية وتتيح في المقابل التعاون الخليجي الإسرائيلي.

في ظل هذه التحالفات، وبرعاية أميركية، باتت الغواصات الإسرائيلية “دولفينا” تسرح وتمرح – إن صح التوصيف – في حوض البحر الأحمر، ومن هناك إلى بحر العرب، حتى تصل إلى شواطئ باكستان، وهي تحمل صواريخ متطورة، ومنها نووية، يبلغ مداها 1200 – 1500 كم، أي أنها تهدد الأمن الإيراني من البحر، كما تهدد أمن كل دولة عربية مناهضة للهيمنة الإسرائيلية والأميركية.

 

استنتاجات

من خلال ذلك يمكن التأكيد على النقاط الرئيسية التالية:

أولاً: تعتمد أهداف الاستراتيجية الإقليمية لتل أبيب في البحر الأحمر بالتنسيق مع التوجهات الدولية للولايات المتحدة، باعتبارها حليفاً ورديفاً لها، وليست تابعاً، بالاختلاف عن الأنظمة العربية التي تعمل ضمن الاستراتيجية ذاتها، ولكن على أساس أنها تابع، وليست شريكاً أو حليفاً للولايات المتحدة،، وهو ما يتمثل في العدوان المستمر على اليمن الذي يصب لخدمة هذا التوجه الإسرائيلي، ودفع أثيوبيا لإقامة سد النهضة على نهر النيل. وتتم الاستفادة من أموال العرب لشراء واستئجار الجزر والقواعد والموانئ، وإقامة القواعد العسكرية، ودفع تكاليف الحروب الأميركية، مقابل حمايتها أنظمتها القائمة.

ثانياً: يحقق الكيان الإسرائيلي في توجهاته هذه هدف الحركة الصهيونية الاستعماري، المتمثل بالهيمنة على خيرات الشرق الأوسط وضمان استمرارية الوجود الإسرائيلي، من خلال تفتيت العالم العربي والإسلامي، وديمومة الصراعات الداخلية فيه، وهي التي تنهك قواه، وتفقده مقدراته وخيرات شعوبه، وتبقيه متخلفاً وتابعاً وفاقداً لمقومات النهوض الحضاري من جديد.

ثالثاً: ربط خطوط التنقل والطاقة ووضعها تحت مركزية الكيان، حيث تتمثّل توجه الكيان في السعي لإقامة شبكات استراتيجية للبنية التحتية، من سكك حديدية وخطوط تجارة برية وأخرى بحرية، ومد أنابيب النفط والغاز من الشرق الأوسط (منتدى الغاز الذي تحول لمنظمة 2020)، وبالتحديد من الخليج على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر إلى البحر المتوسط، لتصبح الموانئ والشواطئ الفلسطينية المحتلة حلقة الوصل بين الشرق الأوسط وأوروبا، وتكون حكومة الاحتلال هي المستفيد مادياً والمدير لهذه الخطوط، وتتحول بهذه الحالة مصلحة الأنظمة المصدرة للغاز والنفط، أو المستقبلة للبضاعة الأوروبية، مرتبطة بالحفاظ على مصالح وأمن الكيان الإسرائيلي ووجوده الدائم، من دون أي حساب للحقوق الفلسطينية، وهذا برز بتصريح بنيامين نتنياهو، في كانون الثاني 2012، بـ “أن إقامة سكة الحديد بين إيلات وشاطئ البحر المتوسط تزيد من تعلق الصين والهند بنا”، ما يعني أن طموحه يصل إلى الدوائر الدولية، وليس الإقليمية فقط.

رابعاً: من خلال تحالفات الكيان الإسرائيلي الاستراتيجية مع دول حوض البحر الأحمر، يمكنها أن تحقق ما ردده شمعون بيرس لعقود طويلة ضمن طرحه الشرق الأوسط الكبير، أي “اجتماع المال العربي مع العقل اليهودي”، ليحقّق أكبر أحلام الحركة الصهيونية، وهو التفوق اليهودي الصهيوني الدائم، بتمويل عربي مع ديمومة التخلف العربي، فـ “إسرائيل” اليوم، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، تحتاج إلى استثمارات عربية خليجية في التكنولوجيا والطب وعلم الفضاء ومجالات إنتاجية عديدة تخشى أن تتفوق فيها إيران، فتفقد تل أبيب عوامل الهيمنة والوجود، لأن مقومات وجودها واستمراريته مرتبطان إلى حد كبير بتفوقها الذي يسمح لها بالهيمنة التامة، إضافة إلى الرعاية الغربية التي تحمي هذا التفوق.

خامساً: تطمح القيادات السياسية داخل الكيان من خلال توسيع نفوذها في الجغرافية الأفريقية، وعلاقاتها التطبيعية مع بعض أنظمة الخليج العربية، إضافة إلى البحث عن أسواق لبضاعتها أو إنتاجها التكنولوجي والتحكم في الاعتبارات الأمنية والعسكرية لهذه الدول، إلى أن تغير مواقف هذه الدول أو هذه الكتل في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، لتقزيم الموقف الدولي المناهض للاحتلال الإسرائيلي، والمؤيد لحق الشعب الفلسطيني في وطنه وفي إقامة دولته المستقلة ذات السيادة.