ثقافةصحيفة البعث

“ترنيمة الموت”.. مرثية مسرحية بين تشيخوف وشكسبير

بعد مونودراما “مرثية الممثل الأوحد كلخاس” التي قدمها في مهرجان حمص المسرحي قبل سنتين، عن نص “كلخاس” للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، يعود خالد الطالب إلى النص ذاته، مخرجاً ومعداً وممثلاً، في العرض المسرحي الموسوم بـ “ترنيمة الموت” الذي يقدمه على مسرح مديرية الثقافة بحمص لصالح مديرية المسارح والموسيقا، لكنه في هذا العرض يتخلى عن تجربة الممثل الأوحد في المونودراما السابقة، فيضم الممثل محمد خير الكيلاني بدور نيكيتا ايفانيتش، الملقن المسرحي الذي يظهر فجأة من غرفة التلقين التي ينام فيها بعد أن دمر منزله، في إسقاط وحيد على واقع محلي يعيشه بعض السوريين ممن دمرت الحرب منازلهم.

يؤدي الطالب دور فاسيلي فاسيليفيتش المسرحي الذي قضى أربعين عاماً من عمره يؤدي أدوار المهرج على خشبة المسرح، وفي ليلة تكريمه ينام على الكرسي بفعل الخمر الذي احتساه احتفاء بهذا اليوم، ليستيقظ فيجد نفسه وحيداً على خشبة المسرح وسط بعض الاكسسوارات والأزياء، لتبدأ ضمن هذه الأجواء تداعيات فكرية ووقفة استرجاعية لمشوار حياته، وجدوى ما قدمه.

استحضر الطالب من خلال التوليفة المسرحية التي اشتغل عليها النمط المسرحي التشيخوفي شكلاً أكثر منه روحاً ومضموناً، بإعداد نص يقوم على تكوين المسرح داخل المسرح، وهي سمة من سمات نصوص تشيخوف المسرحية تحديداً، حاول فلسفة علاقة الإنسان بالموت، وجدوى استمرارية الحياة عند بلوغ الإنسان مرحلة الخيبة واليأس، لهذا نجده يختار، ضمن توليفته الفلسفية، مقاطع من مسرحيات شكسبير تخدم فكرة النص وتضيف عليها مثل: الملك لير، وماكبث، المسرحيتين المتخمتين بمشاهد القتل والغدر والمؤامرات والمآسي التي تحيل الإنسان إلى كائن محبط، عاجز عن إحداث التأثير المطلوب في المجتمع، فيغدو الموت رجاء وأملاً للتخلص من حياة موحشة.

رغم المجهود الكبير الذي بذله الطالب لامتلاك ملامح شخصيته المفضلة، وتقمص انفعالاتها المتواترة، لكنه أغفل سمة مهمة تحاكي ملامح هكذا شخصية، وهي “الكاريزما” المفترضة لشخصية مسرحية عبثية ومحبطة تعيش تداعيات وهواجس داخلية ديدنها الأساس فكرة الموت كراحة أبدية من أعباء الحياة والوحدة والخيبة، فقد ظهر بهيئته المعهودة كخالد الطالب بزيه وتسريحة شعره ولباسه دون أية إضافات وتبدلات تقريبية تقنع المتلقي بالشخصية التي يقدمها لفنان مسرحي عاش أربعين عاماً من عمره يؤدي أدواراً على الخشبة، والتي نامت على كرسي ليلة التكريم بعد الإكثار من شرب الخمر، وهي الشخصية التي يشبهها تشيخوف بحالة الكاهن كلخاس المقامر العربيد في أوبريت “هيلينا” لاوفين باخ، حتى إنه لم يبذل جهداً في رسم سمات ملائمة تقاربها شكلاً ومضموناً، وهناك عناصر مساعدة تخدم وتساعد الممثل في تقمص الدور وإقناع المتلقي به دون الحاجة للكثير من الكلام والمونولوجات الجانبية والذاتية، يشكّل إهمالها عبئاً إضافياً على الممثل يحد من قدرته على امتلاك أدواته الكفيلة بالوصول إلى حالة المعايشة الخلاقة، والتجسيد الملهم للتشكيل البصري والدرامي المطلوب في النص.

وجاءت محاولات مجاراة المسرح البريختي في التغريب أو كسر الإيهام من خلال النزول عن الخشبة، والتجوال بين الجمهور، وتوجيه الخطاب الوعظي المباشر إليه كاستعراض خطابي مبتذل وفائض عن الحاجة لم يخدم الفكرة، أو يعزز استجداء اقتناع الجمهور بها، لأن التغريب، وفق بريخت، يأتي لإعادة الجمهور إلى الواقع بعد أن يكون انفعاله مع الممثل وصل إلى درجة الخلط بين الواقع والتمثيل، أما في حال “ترنيمة الموت” فإن الأداء لم يرق إلى مستوى الإيهام، لتأتي على أثرها مرحلة كسر الإيهام الذي جاء دون مستوى المعادلات التشكيلية البليغة، والوحدات الفكرية المترابطة التي تنقلنا بسلاسة إلى حالة المعايشة الفعلية للتكوينات النفسية التي تقوم عليها شخصية المسرحي فاسيلي الذي عبّر أكثر من مرة عن معاناته مع الحفرة السوداء التي يقصد بها فضاء الجمهور الذي لا يرى الممثل منه سوى حفرة عميقة سوداء معتمة أشار إليها في ترنيمة الموت، دون أن يوضح للمتلقي المقصود بالحفرة ولو بالإشارة أو التلميح، بل كررها أكثر من مرة في سياق الحوار مع نيكيتا، وكأنه يفترض أن كل الجمهور قرأ النص الأصلي ويعرف المقصود بالحفرة.

رغم كل ما يؤخذ على العرض من ثغرات، إلا أننا لا نستطيع إغفال السياق التجريبي الخلاق الذي جاء ضمنه وشكّل إضافة إيجابية تعزز مسيرة الحركة المسرحية ضمن الإمكانيات الشحيحة التي باتت متاحة لاستمرارية النشاط المسرحي المعاند لكل الظروف من أجل البقاء على قيد الحياة.

آصف إبراهيم