مجلة البعث الأسبوعية

كوكب الشرق.. 46 عاماً على الرحيل ولا تزال حاضرة في الوجدان السوري!!

“البعث الأسبوعية” ــ ملهم الصالح

غياب لم يفلح في طمس تاريخ “سيدة الغناء العربي”، أم كلثوم، المتوفاة في الثالث من شباط 1975، وفنّها العظيم، ومواقفها النبيلة الراسخة في وجدان الجماهير العربية عامة، والسورية خاصة.

أم كلثوم الحاضرة بأغانيها التي ترافق ليل السوريين حيثما كانوا: في سهراتهم ومنتزهاتهم، ومطاعمهم، ومقاهيهم، بل ويستلهم صناع الدراما من أغانيها عناوين ومواضيع مسلسلاتهم كـ: “سيرة الحب”، “الحب كله”، “اسأل روحك”، “أنت عمري”، ومنها ما يوجه إهداء في “تتر” البداية “إلى الملكة أم كلثوم” كما في “عصي الدمع”.

 

زياراتها لبلاد الشام

تعود أولى زياراتها لبلاد الشام لصيف 1931، حيث أعلنت مجلة “الصباح” المصرية، في 28 آب من ذلك العام، عن اتفاق بين الوجيه السوري المعروف أحمد أفندي الجاك وأم كلثوم، لإحياء سلسلة حفلات في سورية ولبنان وفلسطين؛ ونشرت المجلة نص العقد كاملاً، والذي يقضي بإقامة 20 حفلة لقاء 220 جنيهاً، تتقاضاها أم كلثوم وفرقتها، على ألا تتجاوز فترة الإقامة 40 يوماً.

وصلت أم كلثوم دمشق في الـ 7 من أيلول، لتحيي في اليوم التالي أولى حفلاتها على خشبة الأوبرا العباسية، ثم أحيت حفلة نهارية للسيدات، وحفلة أخرى للعموم مساء الخميس.

حققت أم كلثوم في دمشق نجاحاً هائلاً، دفع الجاك لإقامة حفلتين إضافيتين، علاوة على الثلاث المقررة. وكتب الصحافي رشيد الملوحي: “شهدت الحفلة الختامية لمطربة الشرق أم كلثوم 5 آلاف نسمة، في حديقة الأمة، وكان إعجابهم بما سمعوا يفوق الحد، وغادرت أم كلثوم مودّعة بمظاهر الحفاوة، وتبرعت بـ 150 ليرة للجمعيات الخيرية”.

تابعت أم كلثوم جولتها الفنية، فأحيت حفلتين في اللاذقية، ثم انتقلت إلى حلب، محققة نجاحاً فاق كل وصف، وشهد الموسيقار كميل شامبير بهذا النجاح، وكتب مقالة استهلّها بقوله: “أحيت المطربة النابغة أم كلثوم ثلاث ليال غنائية في حلب، وبوسعي القول إنها من ليالي الدهر، فقد كان الإقبال عظيماً على هذه الليالي، وكانت الصالة تضم كل ليلة ما يربو على 3 آلاف نسمة، كلهم من صفوة القوم، ومن أحسن هواة الغناء، الذين يقدّرون الموسيقى ويتذوقون حلاوتها بفهم وتقدير”.

بعد حلب، أحيت أم كلثوم حفلة في حمص، وبذلك تنهي جولتها الأولى في سورية، والتي تحدّثت عنها مطولاً، ووصفتها بـ “التاريخية”، معربةً عن إعجابها الشديد بالجماهير التي حضرت حفلاتها: “الجمهور كان على جانب عظيم من التعليم والتهذيب والثقافة، وتقديرهم للأغاني الأدبية وإعجابهم بها، واستعادتها، جعلني أشعر في كل حفلة أحييتها بسرور نفساني عميق.. أرسل تحياتي لجميع الذين شرّفوني بحضور حفلاتي في سورية ولبنان وفلسطين، ولتشجيعهم وحسن تقديرهم للفن يرجع الفضل في ما صادفته رحلتي من التوفيق والنجاح”.

 

حفلاتها في دمشق

في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، عادت أم كلثوم لإحياء حفلاتها في دمشق ومعرضها، بعد انقطاع 24 عاماً؛ وحول تلك المرحلة، يقول الراحل شمس الدين العجلاني: أحيت أم كلثوم العديد من الحفلات الغنائية في دمشق، على مسارح أرض معرض دمشق الدولي، وسينما دمشق، ومسرح مدرسة اللاييك، وسينما الزهراء، عام 1955، و1957، و1958، و1959؛ وكان وكيل أعمالها في الشام طيلة 30 عاماً أحمد الجاك.

في حزيران 1955، وبدعوة من “جمعية المبرّة النسائية”، أحيت أم كلثوم حفلتين في حديقة اللاييك، تجاوز الحضور الـ 5 آلاف، غنّت فيهما: “ذكريات”، “ولد الهدى”، “يا ظالمني”، “يللي كان”، “رباعيات الخيام”.

عادت أم كلثوم إلى دمشق في أيلول من العام نفسه، لتقيم حفلتين في سينما دمشق، وغّنت حينها: “جددت حبك ليه”، “يا ظالمني”، “نهج البردة”، “سهران لوحدي”، “ذكريات”، “رباعيات الخيام”.

في الدورة الرابعة لـ معرض دمشق الدولي، دُعيت أم كلثوم لإحياء حفلين في 6 و9 أيلول 1957، غنّت فيهما: “دليلي احتار”، “شمس الأصيل”، “يللي كان”، “رباعيات الخيام”، “يا ظالمني”؛ وخلال تلك الزيارة، منحها الرئيس شكري القوتلي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، قلّدها إياه أمين عام رئاسة الجمهورية عبد الله الخاني، بعدما تبرعت بريع حفلاتها للمجهود الحربي السوري.

بعد قيام الوحدة السورية المصرية، غنّت أم كلثوم على خشبة المعرض، في 4 و6 أيلول 1958: “ذكريات”، “عودت عيني”، “أهل الهوى”، “دليلي احتار”.

‏ويروي غازي الرحيباني عامل بوفيه سينما الزهراء أنه: بعد الافتتاح الرسمي للسينما بأيام، وتحديداً في الـ 24 من تشرين الثاني 1959، أقام المشير عبد الحكيم عامر حفلاً فنياً خاصاً تكريماً لملك المغرب محمد الخامس، الذي يزور دمشق حينها، أحيته أم كلثوم وفرقتها حيث وصلوا دمشق بالطائرة، وغادروها فور انتهاء الحفل الذي قدّمه الإذاعي فؤاد شحادة. حضر الحفل وجهاء دمشق وأبرز سياسييها، والعديد من الوزراء، منهم وزير الداخلية عبد الحميد السراج، ليكون ذلك الحفل أول حفل على مسرح سينما الزهراء، وآخر حفل لأم كلثوم في دمشق.

لم تزر أم كلثوم دمشق بعد الانفصال، لكنها بقيت على محبتها ووفائها للشعب السوري، وحتى وفاتها، عام 1975، كانت تطلب من أي صديق يزور دمشق: “والنبي عايزه اسطوانات صباح فخري”.

 

 “سومه” والبارودي..‏

لم يغب الزعيم الوطني والسياسي فخري البارودي- أحد ظرفاء دمشق – عن حفلات أم كلثوم التي أحيتها في دمشق، فقد كان من أشدّ المعجبين بها، والمفتونين بصوتها، وتشهد دارة البارودي، موئل السياسيين والفنانين، حفلات عدة على شرف السيدة أم كلثوم.

ومما يروى عن طرائف البارودي مع أم كلثوم أنه قاطعها في إحدى حفلاتها على مسرح سينما دمشق، عام 1955، وهي تغني “جددت حبك ليه”، صارخاً بأعلى صوته: “الله يبليكِ بحبي”، فتضحك أم كلثوم، ويضحك الجمهور معها، وكان ذلك حدثاً فريداً في مسيرة “صاحبة العصمة” الفنية، إذ أنها قلّما تضحك أو تبتسم على المسرح، كما أنها لا تسمح لأحد بمقاطعتها، لكنها قبلت مقاطعة البارودي بود، نظراً لاحترامها الشديد له، وللصداقة القديمة بينهما. وقد وثّق تسجيل الحفل تلك الطرفة بصوت البارودي – المسموع بوضوح – لترافق الدماثة الدمشقية الإرث الكلثومي في رحلة الخلود.

أم كلثوم وأم كامل..

أقيمت على شرف “الست” حفلة عشاء كبيرة في دارة البارودي بحيّ القنوات، حضرها نخبة من السياسيين والفنانين، والنجم الشاب أنور البابا، صاحب شخصية “أم كامل” المشهورة جداً في إذاعة دمشق.

حدّثها الحضور عن “أم كامل” وقصصها وطرائفها، فثار فضولها، وطلبت التعرف على تلك السيدة البسيطة، ذائعة الصيت في الوسط الدمشقي. نهض أنور البابا لتلبية الطلب، ودخل إلى غرفة مجاورة لأرض الديار بحجة الاتصال بـ “أم كامل”، وكان ينوي طبعاً تغيير ملابسه وارتداء “الملاية” السوداء الشهيرة التي كانت تلبسها “أم كامل”.

بعد لحظات، اقترب البارودي من أم كلثوم، وهمس في أذنها: “وصلت أم كامل يا ست، وهي في الغرفة دي”. هرعت أم كلثوم للغرفة لتفاجىء بأنور البابا يرتدي نصف زي “أم كامل”: “الملاية” من فوق والبنطال من تحت.

ضحكت “أم كامل”، وعلّقت بلهجتها الدمشقية المعروفة: “يوه يوه تؤبريني.. ما حلوة تفوتي عليّ هيك، لا إحم ولا دستور، حتى لو كنت أم كلثوم”، فردّت أم كلثوم ممازحة: “مين الست دي؟ أم كامل أو أبو كامل؟”، ثم خرجتا معاً إلى أرض الديار، لتوثق تلك اللحظة صورة نادرة، حُفظت في دار البارودي لسنوات.

 

أم كلثوم ونزار قباني..

غنّت أم كلثوم قصيدتين من أشعار نزار قباني: الأولى “أصبح عندي الآن بندقية”، وذلك عقب أحداث نكسة 67، ألحان محمد عبدالوهاب، والثانية “رسالة إلى الزعيم”، والتي يرثي فيها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ألحان رياض السنباطي. والمفارقة أنها اختارت لشاعر الحب والمرأة كلمات وطنية تغنيها، على عكس ما هو متوقع.

ويروي الإعلامي وجدي الحكيم المقرب من “الست”: رفضت أم كلثوم إذاعة أغنية “رسالة إلى الزعيم” التي سجلتها رثاءً لعبد الناصر 1970، لأنها ترى أن الحزن على الزعيم يبقى في القلب، بينما لا يجب التشويش على الرئيس الجديد أنور السادات الذي تولى أمور البلاد.

ويسرد نزار قباني حادثة اتصاله هاتفياً بأم كلثوم، مستفسراً عن منع دخوله مصر، فاستبعدت صحة الخبر، واتصلت بالرئيس عبدالناصر ليتبين أن لاعلم له بالأمر، فأمر على الفور بإلغاء المنع، قائلاً لها: “أرجو أن أجد الوقت عندما يزور مصر لأقابله وأكرمه”.

 

الباحثة إلهام أبو السعود..

تصف الباحثة لفنية إلهام أبو السعود صوت سيدة الغناء العربي بأنه “صوت ساحر، لا يزال من أجمل وأنقى الأصوات الغنائية التي عرفها تاريخ الغناء العربي الحديث، صوت جعل منها أسطورة الغناء العربي.. يمتاز صوتها بالقوة والمساحة الواسعة، من أبدع من رتّل وجوّد القرآن الكريم، تحفة نادرة لم يسبق أو يلحق بها مثيل، الصوت الذي أبدع في المجالات القومية والدينية والعاطفية”.

وتذكر أبو السعود أنها “حضرت لأم كلثوم حفلتين في دمشق وأربع في القاهرة، كنت أحجز في الطابق العلوي لأنه الأرخص، ولكوني طالبة لا أملك الكثير من المال، وكذلك رغبة مني في مراقبة انفعالات الجمهور وردّات فعله في استقبال صوت أم كلثوم.. كان البعض يصاب بالبكاء من فرط التأثر والسعادة”.

 

الموسيقار أمين الخياط..

يستذكر الموسيقار أمين الخياط لحظات الخوف والوجل والإرباك حين التقى أم كلثوم في دمشق 1955، قبيل تخرجه من المعهد الموسيقي، في حفل عشاء أقامه البارودي في دارته بحي القنوات، ليعزف الخياط مقدمة “جددت حبك ليه” على آلة القانون، فتصفق له وتثني عليه، ثم قدّم مع طلبة المعهد لوحات من رقص السماح والتواشيح، فأعربت عن إعجابها الشديد بفنون أهل الشام وتراثهم.

 

الباحث عثمان حناوي..

مدير أعمال المطربة ميادة الحناوي – الذي التقى محمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، ووجدي الحكيم، ويزخر أرشيفه بنوادر أم كلثوم – اعتاد وشريكته الإعلامية هيام الحموي، في برنامجهما “نثرات من ذهب الزمان”، تخصيص آخر ربع ساعة لكوكب الشرق، على مدى 14 عاماً، علاوة على إعداد حلقة خاصة بسيدة الغناء العربي كل عام، في ئكرى ميلادها ورحيلها، إلا أن تواجد الحموي في باريس حال دون بث حلقة خاصة في ذكرى رحيل كوكب الشرق الـ 46.

ويعلل الحناوي بأن ترسيخ أم كلثوم في العالم العربي “مطربة الليل” مرده لاتفاق ضمني لعشاق أم كلثوم، وأن الاستماع لأغانيها ليلاً يعود لطقوس السهر في المشرق العربي، ما يجعله الأنسب للشجن والتأمل والاسترخاء، علاوةً على طول ونوعية مضامين أغاني أم كلثوم وطبيعتها الموسيقية، كلحن وإيقاع وقالب، إضافة لإعادة وتكرار المقطع الغنائي بهدف التطريب والتأثير.

 

الموسيقار صفوان بهلوان..

يستعرض الموسيقار صفوان بهلوان محللاً أبرز محطات المسيرة الفنية لكوكب الشرق: “في بداية حياتها تعاملت مع أستاذها ومكتشفها أبو العلا محمد، فكانت مرحلة البدايات التي كونت لها أساساً بنت عليه ركائزها، ثم انتقلت إلى صبري النجريدي الذي قدّم لها مجموعة من الألحان، تبعه الشيخ زكريا أحمد الذي صبغ صوتها بالأسلوب الكلاسيكي التطريبي المباشر، أما محمد القصبجي فله معها محطات مهمة جدأً شكّلت حدثًا فنياً، حيث وظّف صوتها في مسألة العرض الصوتي، والامتداد الصوتي البعيد عن التطريب المباشر، بما يذكرنا بالأسلوب الأوبرالي. بعد ذلك، وصلت إلى رياض السنباطي الذي ظفر بنصيب الأسد من أغانيها، إذا استطاع – وباقتدار – أن يشكّل “الشخصية الكلثومية” التي نعرفها اليوم، ويستغل صوتها بكافة أبعاده ومساحاته، ويطبع فيها شخصيته التي تماهت معها حتى أصبحا شخصيةً واحدة، مبتكراً أسلوباً رومنتيكياً تطريبياً يمزج ما بين التطريب والكلاسيكية والرومنسية. فيما قدّم بليغ حمدي لأم كلثوم تجربة جديدة استطاعت من خلالها أن ترفد شخصيتها الغنائية بطابع آخر يتميز بالبساطة والسهولة بغية الوصول لشريحة جديدة من المستمعين”.

ويزعم بهلوان: “لقاؤها بـعبد الوهاب حدث فني كبير، تحدثت عنه الصحف كثيراً، ومفصلي في المسيرة الكلثومية قاطبة، والجديد الذي قدّمه عبد الوهاب اعتماده على المقدمات الموسيقية المطولة، مستخدماً بذلك صوتها ليحمل موسيقاه الذاتية التي كان يقدمها لذاتها، والتي أصبحت تقدم لاحقاً في النوادي الليلية والمسارح لذاتها دون غناء، وبالتالي حرر الموسيقى من تبعيتها للغناء، ورغم ذلك تبقى علاقتها بالسنباطي العلاقة الأكثر استوثاقاً وعمقاً”.

ويختتم بهلوان: “أم كلثوم عبقرية صوتية، وشخصية أدارت موهبتها بحنكة واقتدار جعل منها أسطورة غنائية يندر مثيلها، تذكرني بأورنينا (مغنية المعبد في مملكة ماري). أسست مدرسة في الغناء، وبنت لنفسها مكانةً على خارطة الغناء العربي والعالمي، ليس لكونها صوتاً عبقرياً فقط، بل لدأبها وشغفها وثقافتها وعلمها، نذرت نفسها ناسكة في معبد الفن، متغافلة عن غرائزها كامرأة، أخلصت للفن فأعطاها كل ما يمكن أن يعطيه لفنان”.