دراساتصحيفة البعث

دبلوماسية اللا دبلوماسية

إعداد: علاء العطار

إن تمعّنا بفكرة عودة الولايات المتحدة إلى الدبلوماسية، ستثبت السنوات الأربع المقبلة أنها من بين الوعود التي سينكثُ بها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وسيثبت أنها من أكبر الخدع، وفي مخطّطه الأكبر، ستتعرّض لخروقات كثيرة. وأوضح مثال على هذا هو الأزمة المتعلقة بالاتفاقية التي تحكم برامج إيران النووية، إذ أبلغت طهران إدارة بايدن أن أمامها أسبوعين لتبدي جديتها بشأن إعادة الدخول في مفاوضات دبلوماسية، وبعد تلك المهلة ستغلق نافذة الفرصة بمصراعيها، وليس هنالك ما يدلّ على أن مسؤولي وكالة الأمن القومي في إدارة بايدن سيبدون جديتهم أثناء تناولهم هذه المسألة المهمّة.

ليس هنالك من الدبلوماسية الأمريكية ما يمكن العودة إليه، وهو ما شرحه الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق الراحل بطرس بطرس غالي بصورة جديرة بالذكر في مذكراته التي نشرها عام 1999، بعد أن أجبرته الولايات المتحدة على التنحي عن منصبه لأنه لم يكن خنوعاً بالقدر الكافي، إذ كتب: “لا يعتمد على الدبلوماسية إلا الضعيف، لذا لا ترى الولايات المتحدة أي حاجة إليها، فالقوة كافية”، وأصاب بذلك عين الحقيقة.

وأوضح غالي: “لم تكن للإمبراطورية الرومانية حاجة إلى الدبلوماسية، ولا الولايات المتحدة، إذ تعدّ الدبلوماسية قوة إمبريالية مضيعة للوقت والمكانة وعلامة على الضعف”، وهذا هو التقليد الذي ستعود إليه إدارة بايدن. فلنسمّها إذن دبلوماسية اللا دبلوماسية.

يدور الآن حديث كثير عن تجريد السياسة الخارجية الأمريكية من الصفة العسكرية، فقد قال ويليام بيرنز، الدبلوماسي المحترف والذي تولى الآن منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في مقابلة أجريت في الربيع الماضي مع مجلة “ذا فورين سيرفيس جورنال”: “رأينا مراراً كيف يمكن أن يقودنا الاعتماد المفرط على الأدوات العسكرية إلى طريق سياسي وعر، ولطالما وقعنا في فخ الإفراط في استخدام القوة- أو استخدامها قبل الأوان، وهذا يميل إلى جعل الدبلوماسية فكرة مشوّهة وفقيرة الموارد”.

الاتفاق النووي كمؤشر مبكر

كان مصير الاتفاق الننوي كمؤشر مبكر لمبادئ سياسة بايدن الخارجية، إذ تبدو طهران الآن مصرّة على فرض قضيتها، ولها كل الحق في ذلك، وهذا يصبّ في مصلحتها، ومصلحة الجميع.

رفعت خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تُعرف بالاتفاق النووي رسمياً، العقوبات الأمريكية والدولية مقابل خفض إيران لتخصيب اليورانيوم تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذكرت تقارير الوكالة مراراً أن إيران ملتزمة بجانبها من الصفقة، وبالنظر إلى انسحاب دونالد ترامب من اتفاق الدول الست في عام 2018، فإن نيّة بايدن المعلنة خلال حملته الرئاسية كانت إعادة الولايات المتحدة لتكون شريكاً في الصفقة مجدداً. لكن اتضح منذ البداية استبعاد احتمال أن يفي بايدن بوعده السياسي هذا كاملاً، ويعود ذلك أساساً إلى أن الكيان الصهيوني أوضح، بمجرد فوز بايدن، أنه لن يقبل مثل هذه النتيجة. ونحن الآن نشاهد بايدن ومرؤوسيه في السياسة الخارجية يسمحون للكيان الصهيوني بإملاء الشروط التي تمكّن بايدن بموجبها من الوفاء بوعد حملته الانتخابية.

تطالب طهران إدارة بايدن برفع العقوبات التي فرضها ترامب بعد أن انسحب من الاتفاق كشرط وحيد لها قبل استئناف المحادثات، وهذا ليس طلباً مسرفاً في ظل هذه الظروف، لكن سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكين أوضحا أن الولايات المتحدة لن تتخذ هذه الخطوة إلا بعد عودة إيران إلى الامتثال الكامل لقيود الاتفاقية. وإن أردنا ترجمة قولهما نجد أن المعنى الكامن وراءه هو: نفذوا مطالبنا قبل أن نفتتح مفاوضات بشأن مطالبنا، بعبارة أخرى، يُقصد بموقف الولايات المتحدة أن يكون عرضاً لا يمكن لإيران قبوله.

وتجدر الإشارة إلى أن بلينكين بدأ في تغيير قصته منذ جلسات الاستماع التي عقدها في مجلس الشيوخ في اليوم السابق لتنصيب بايدن، وزعم لأعضاء مجلس الشيوخ المجتمعين أن “الوقت الذي ستستغرقه إيران لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لسلاح واحد انخفض من أكثر من عام إلى حوالي ثلاثة أو أربعة أشهر”. وفي مقابلة مع شبكة “إن بي سي نيوز” في 31 كانون الثاني، قال إن هذا الإطار الزمني قد يتقلص إلى “أسابيع” إذا استمرت إيران في التخصيب منخفض الدرجة بالوتيرة الحالية، حسب إدعائه.

ربما يشحذ بلينكين خطابه تحسباً لمحادثات يوسي كوهين، التي يفصلنا عنها الآن أسبوع أو أسبوعان. عندئذٍ، سوف يبرّر الإحساس المتزايد بالخطر قبول مطالب شديدة الصرامة يفرضها الكيان الصهيوني على إدارة بايدن. لكن محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران وأحد أفضل الدبلوماسيين الفاعلين الآن، مبدع ومبتكر في عمله، إذ اقترح التالي: ستعود إيران إلى الامتثال بينما ترفع الولايات المتحدة العقوبات، وقال: إن الاتحاد الأوروبي الذي يمثله جوزيب بوريل، بصفته وزير خارجيته، يمكن أن “يضع الإجراءات المناسبة، ويمكنه وضع آلية لمزامنتها أو تنسيق ما يمكن القيام به بشكل أساسي”.

قد يتساءل المرء: ما العيب في ذلك؟ سيتعيّن علينا أن نسأل مسؤولي السياسة الخارجية في إدارة بايدن، لأنهم رفضوا العرض.

ردّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في اليوم التالي: “إذا عادت إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة، فستفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه، ثم سنستخدم ذلك كمنصة لصياغة اتفاق أقوى وأطول أمداً يعالج أيضاً مصادر القلق الأخرى”.

هذه ليست أكثر من كلمات مغفل متغطرس وصفيق يعتمد على قوته الكبيرة، وقد استخدم بلينكين العبارات نفسها منذ شهور، وهي طريقة أخرى للقول بأن الولايات المتحدة ليس لديها نيّة لتغيير موقفها حتى عندما يقدّم إليها عرض مرضٍ للطرفين عبر طريق دبلوماسي.

لا جديد في هذا، وهو مشابه لما مرّت به كوريا الديمقراطية، إن أردنا تناول إحدى الحالات العديدة، إذ انخرطت واشنطن في دبلوماسية اللا دبلوماسية مع بيونغ يانغ على مدى العقود السبعة الماضية، وقدمت لها “صفقة” تلو الأخرى تهدف إلى حث كوريا على الرفض.

في الواقع، أوضح بلينكين في جلسات الاستماع أمام مجلس الشيوخ قبل بضعة أسابيع أن هذه هي بالضبط الطريقة التي يقترح بها معالجة مسألة كوريا الديمقراطية: استخدام العقوبات والتهديد بالقوة لمواجهة كوريا الديمقراطية بعروض لن تقبلها، ثم يتهمون الكوريين بالعند.

لن يستمر هذا الهراء إلى ما لا نهاية مع تكشّف ملامح قرننا الجديد. في حالة إيران، الوقت يمرّ، ففي ردّ واضح على رفض واشنطن لمقترح ظريف، وصف قائد الثورة السيد علي الخامنئي قبل أيام موقف طهران النهائي على النحو التالي: “إذا كانت الولايات المتحدة تريد من إيران العودة لالتزاماتها فيجب عليها أن ترفع جميع العقوبات أولاً، وليس فقط بالكلمات أو على الورق، سنتحقق لنشعر بأن العقوبات رُفعت فعلاً، وبعدها سنعود إلى التزاماتنا بموجب الاتفاق”.

وأشار تقرير وكالة فرانس برس، نقلاً عن هذا الخطاب المتلفز، إلى أن إيران ستطرد جميع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 21 شباط إذا لم تلب الولايات المتحدة مطالبها.

إن دبلوماسية اللا دبلوماسية ليست دبلوماسية، بل هي مسرحية إيمائية يمثل فيها مدّعون عابثون، والغرض منها إخفاء اعتماد أمريكا على القوة العسكرية.

وتعقيباً على ما قاله بطرس غالي، غالباً ما تكون الإمبراطوريات ضعيفة، والتاريخ حافل بالأمثلة، وهذا هو وضع أمريكا بعد سبعة عقود من الرضا عن النفس، لكنها ضعيفة العقل والجسد حتى إنها لا تستطيع تدبر أي شيء، ليس الدبلوماسية فقط.