الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مكاشفات

سلوى عباس

“السر إنسان آخر يعيش معنا، مزهرية حلوة وناعمة، إذا أمسكناها تنكسر، وتنكسر الحكاية”. هذا ماقالته الحكاية، لكن ماذا عن سرنا نحن؟ هل نعيش معه أم يعيش معنا؟ هل ندركه أم أنه تلك الغرفة المغلقة التي نخاف طرق بابها خوفاً من مواجهة أنفسنا؟ فلكل منا سره الجميل أو الحزين، يرافقنا كظلنا، مهما حاولنا الانفلات من طيفه نرى عبيره مكتنفاً أرواحنا وذاكرتنا، بل إنه العمر الذي ينصهر إلى دقائق، حيث في لحظة مكاشفة معه لا زمن ولا شموس الكون تغرب ولاشيء يعُدّ علينا نبضاتنا، ولا ساعات تقيس لنا يومنا.. هكذا نبدو معه، أما السر الذي يسكنني فهو الحلم الذي أبدو وكأنني خلقت من سنا ضوئه فلا تقاربني الظلال، غيّر من ملامحي الكثير وأنبت فيّ حلو الكلام، أرخى على جفني طول السهر وأشعل في قلبي بيدر الأحلام، أيقظ فيّ حساً كنت أظنه قد مضى، لكنه أحياناً يباغتني كما التراب يفاجئه المطر الأول للخريف يحيله إلى كرات دافئة من غضار، فلا هو استحال طيناً ولا بقي ذرات جافة متناثرة من غبار، هو بين حالتين، ينوء بالكلام همساً، وبالإعلان عن حروفه الملونة، فلا يأتي البوح ملوناً، ولا هو صمت، فاجأته لغة من لهب تتراقص حروفها في كل الاتجاهات، كما خطوه المتقافز بين المد والإدغام، ليس ينتظر، وينتظر كثيراً.. قد يكون متلعثماً هذا النطق بالحالة، ربما لم يجد وقتها لغة توائمه.

مرّة قرّرت مواجهة السر، أين أنا منه؟ وكم هو متاح لي؟ هل أجرؤ على إعلانه أم أنه قيد السرية؟ فأركن إلى حلمي الذي لا أمل من قوة صبره حيث أنتصر به على وجع الحياة تارة ووجع من أحببتهم تارة أخرى، أفتح نافذة القلب المفضية إلى الضوء وأطيّر في سمائها حمامة من رغبات وأمان، أحمّلها وجدي وأحلامي بانتظار أن يعود ضوء النهار يشع في روحي، وتطير حولي فراشات الفرح..

هكذا تمضي بنا الحياة.. نقضي أيامنا في الركض واللهاث، دون اعتبار منا لما قد يعترض حلمنا من مفاجآت وعقبات تؤخر بلوغنا إياه، فنشهد ابتعاد المسافة بيننا وبين حلمنا ويتملكنا إحساس مرير بالانتظار والترقب المتوفز لحركة الوقت، وارتجافات عقارب الساعة المنتظمة التي تحسب علينا كل ثانية تمر، وتتداخل اللحظات المتواترة بين عجزنا عن اللحاق بالدقائق التي تتسرب من عمرنا وبين التواءات الطرق ووعورة المسالك، فنرى منافذ الأمل مسدودة في عيوننا، وتتوافد أسباب ومنغصات كثيرة لتغلق علينا خطواتنا وتسدل على اتجاهاتنا آلاف السدود، وما علينا نحن إلا أن نتابع ركضنا لنصل قبل انقضاء الزمن المقرر، ذلك الزمن المرهون بدقات الثواني التي تقرع أجراسها في آذاننا، فنبقى مرصودين لعذابات الوقت الذي ينسرب سريعاً، وفي لحظة من تعب اللهاث نركن إلى أرواحنا نتلمس وهن قلوبنا التي أضناها الركض ونناجي أنفسنا بحسرة أننا لا نستطيع الطيران، وندرك كم هو صعب أن نصل مبللين بعرقنا وآمالنا وتعذيب ضمائرنا، ثم نقضي وقتاً طويلاً من الخيبة قبل أن نلتقط نفسنا الأول ونكتشف وصولنا المتأخر، وأن الحلم الذي قضينا عمرنا نرسم ملامحه ونسعى إليه تبدد في طيات الوقت الذي بقي يجري مسرعاً، ليضعنا جميعاً في مواجهة أنفسنا، نبحث عن أجوبة لأسئلة أرهقت أرواحنا ورمتنا خلف عتبة الحياة.