الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في موقف الحبّ

د. نضال الصالح

أوقفني في موقف الحبّ وقالَ لي:

ويا عبْدُ، إنّي، وقبل أن أخلقَ ذاتاً أو جماداً خلقتُ الحبّ. قلتُ له: “كُنْ” فكانَت الملائكةُ، والجنّةُ، وآدمُ، وحوّاءُ، والسموات، والأرض، والماء، والشجر، والوردُ، والطيرُ.. ويا عبدُ، أنا والحبّ صنوان، فمن كان على صورته كانت ذاتي ذاته، وكان له بعضُ ما تعدّدَ مِن أسمائي.

يا عبدُ، بالحبّ تعودُ إليّ، فكنْه أكنك، وأجعله ماءَك وهواءَك وما يعينك على الحياة، تصرني. وإيّاكَ وضدّه، فذلك لظى القلب، وسُقره، وكفى بالضدّ سعيراً. ويا عبدُ، الحبّ حياةٌ، وبه تكتملُ، بل تستقيمُ، فاستعنْ به عليها، وما سواه، بل ما يغايره وينفيه موتٌ، فلا تقرب شجرته التي حرّمتُ، فتكونَ من الظالمين.

ويا عبدُ، اجعلِ الحبّ غايةَ سؤلك، ومأمولك، وسكَنَك، وسكينتك، ففي حضوره تجلّ لي، وفي غيابه تجلّ لما خلقتُ من نار. هو السرُّ المكنونُ فيّ، فليكنِ السرَّ المكنونَ فيك. به تعرفني، فتعرفُ المعنى، وتسمو إليّ، بل تكون خليفتي في الأرض حقّاً لا مجازاً، وتصيرُ إلى الإنسان جوهراً لا هيئةً. هو الأصل في كشف أسرار اليقين بي، والوصول إليّ، والعارفون يعرفونني به، والجاهلون به لا معراجَ لهم إليّ، وكُفرهمُ به كُفْرٌ بي، والكافرون به لا سماؤهم سماءٌ، ولا أرضهم أرضٌ، بل سماؤهم أرضٌ، وأرضهمُ ما أضناهُ اليباس من كلّ شيء، ودارهمُ العاجلةُ دارُ محنٍ وبلاء، وليس لهم في الآخرة الباقية من ريح الجنّة روح.

بالحبّ تبزغُ فيكَ، ومنك، كواكبُ من بعض أسمائها: الطمأنينة، والمسرّات النبيلة، والسلام. وبه تتطهرُ من الآثام والدنايا، وترفو ما تشقّقَ، أو يكادُ، مِن حرير الفضيلة. وبه تنأى عن الزائف، والفاني، والمدنّس، وعمّا تشابهَ من الطيّبات، والجِنان، والشهوات. بالحبّ تشكرُ نعمتيَ عليك إذْ قلتُ لطينك كُن إنساناً لا ممّا ليس يعقلُ، فكنتَ. بالحبّ أطلقكَ من أسر الجسد إلى سماء الروح، فتتقدّسُ، وبه يصير قريبُك أقربَ، وبعيدُكَ أقربَ، فاستعن به، يكن لك ما تشاءُ. الحبّ شمسُ الوجود، ووجوده شمسٌ لا تعرف الغياب، فاجعله بعضَ عباداتك تكن بعضَ ملائكتي التي خلقتُ من نور.

ويا عبدُ، إن استغنيتَ بالحبّ رأيتَ فقرَ كلّ شيء سواه.

ويا عبدُ، مَن لم يكن الحبّ فيه ومنه كانَ كالبناء الخراب، وكالأرض المعطّلة كلّما طال جفافُ مائها زادَ نباتها الذي لا نفعَ منه، والقلب الفقيرُ إليه كالشجر العاقر، والغيم العاثر لا سماء تُمسكه ولا أرضَ تستغيثه. ويا عبدُ، أعدى أعداء الإنسان وأصدقُ أصدقائه قلبه الذي بين جنبيه، فاختر قلبَك كيف يكونُ. ومَن ظلمَ قلبه كانَ لغيره أظلمَ، ومَن أنصفَ قلبَه أنصفَ نفسَه وسواه.

الحبُّ يقينُ، واليقينُ فردوسُ كلّ شيء، ومَن لم يكنِ الحبُّ زادَ يومهِ كانَ يومُه، شأنَ نفسه، كالمنبت لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطعَ. الحبُّ اكتمالٌ، والاكتمالُ جمالٌ، والجمالُ قوتُ القلوبِ وحواسّها التي تدركُ بها ما لا تدركه الحواسّ. ويا عبدُ، مَن أحبَّ لم يمتْ وإنْ مات. أرفعُه إليّ، وأحرّره من حبسه في الموت كما أطلقته بالحبّ من حبسه في الحياة.