مجلة البعث الأسبوعية

قاعة العرش.. هنا تشعُّ القوة والقانون والعدالة

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

مهيبة بإطلالتها الشامخة على الحياة، تلتفت إلى تاريخها العريق المضيء، وحاضرها الذي لا يألف المستحيل، ومستقبلها وهو متجذر على تل حلب منذ الأزمنة السحيقة، تفرح بأبنائها الذين لا يغادرونها ولا تغادرهم، ويدافعون عنها باستمرار، ومنهم الجنود السوريون الذين حموها وحمتهم في الحرب الكونية الظلامية على سوريتنا الحبيبة فانتصروا جميعاً وانتصرت.

 

فينيق القلعة

قلعة حلب المعتبرة من أكبر وأقدم وأجمل قلاع العالم، أدرجتها منظمة اليونسكو على لائحة مواقع التراث العالمي الإنساني عام 1986، صمدت مثلها مثل أية حجارة وأشجار وذرات تراب في سورية، وانتصرت على ظلاميي العصور والمحتلين والكوارث الطبيعية المدمرة، وستظل مشرقة مطلة على العصور وكأنها الفينيق المجنّح الذي وهب العالم كيفية الانبعاث من الرماد، وعلّم الموسيقا كيفية العزف المنفرد الذي استظلتْ به قيثارة هوميروس.

القلعة المتمركزة وسط مدينة حلب القديمة، وترتفع عنها 40 متراً، تتمتع بهندسة معمارية فريدة، بدءاً من شكلها الخارجي المخروطي بقاعدة سفلية (550/ 350 متراً)، وقاعدة علوية (375/ 272) تتجذر عليها القلعة المحصنة بسور يلفها مثل مدار الشمس المشرقة منها على ستة أبراج تطل على منحدر دفاعي، بني فيه برجان متصلان بالقلعة من خلال سراديب، بينما يمكث في الأسفل خندق يحيط بالتل عمقه 22 متراً، وعرضه 30 متراً، متأهب، دائماً، مع حجارة القلعة للدفاع عنها ضد الغزاة والمحتلين.

ولأن القلعة ليست حصناً وقصراً فقط، بل مدينة أيضاً، فإنها ناغمت بين طابعها العسكري والمدني، كونها مصممة للدفاع والانتصار والحياة، لذلك، عاشت فيها شخصيات ملكية حاكمة، وعششت فيها آثار التاريخ منذ العصور الوسطى مروراً بالآراميين والإغريق والآشوريين والبابليين والفرس والهيلنيستيين والبيزنطيين والمماليك والزنكيين والأيوبيين والعصر الإسلامي والعربي والعصر الحديث.

 

بيرويا والأكروبول المحصن

منذ الألف الثانية قبل الميلاد، والقلعة تشهد على الأزمنة والحضارات، تتذكر بأصالتها المعهودة كيف اهتم بها الحاكم سلوقس نيكاتور الأول ممثل الاسكندر المكدوني، وأطلق عليها “بيرويا”، وأصبحت مركزاً دينياً عالمياً “أكروبولاً محصناً” يقصده الجميع من كافة جهات الأرض ومنهم الإمبراطور الروماني جوليان الذي زارها عام 363 للميلاد، ثم قال: “مكثت هناك ليوم، زرت الأكروبول، قدمت الثور الأبيض لزيوس حسب العادات الإمبراطورية، وعقدت حديثاً قصيراً مع مجلس المدينة حول عبادة الآلهة”.

يقال: النبي إبراهيم الخليل كان يحلب غنمته على تل القلعة، ويحكي التأريخ عن مسيرتها وأحداثها بين نور الدين الزنكي، الظاهر بيبرس، الغازي بن صلاح الدين، وسيف الدولة الحمداني، وما زالت الحجارة تحتفظ بأصوات سهامهم ومدافعهم التقليدية وصهيل أحصنتهم وخططهم الحربية، وأحاديثهم، وأحاديث جلساتهم لا سيما ما كان يدور في مجالسهم الأدبية والثقافية والموسيقية والعلمية، خصوصاً في زمن سيف الدولة وابن عمه أبي فراس الحمداني، والمتنبي.

 

قاعة العرش نافذة أسطورية

ولأهميتها الحضارية ثقافياً وعلمياً وفنياً وتأريخياً، نجد أن بناءها العمراني توازيه منظومة من البناء النفسي والاجتماعي والثقافي المتمركز حول البناء المعرفي المطل على حلب من خلال قاعة العرش كأحد أبرز المواقع الأثرية في القلعة، لا سيما وأنها تقف بشموخ فوق برج المدخل الرئيس للقلعة، ولا بد من النزول إليها من خلال 7 درجات، مستطيلة الشكل وأشبهَ ما تكون بالمربعة، وفي ذلك سرٌّ معماري، وتتوسطها نافورة ماء أيوبية تعكس جماليات الحياة اليومية وأحلامها وإيجابيتها، إضافة لعشر نوافذ تتناغم فيها الإضاءة السماوية لتلوّن اللحظات والفصول والأفكار، فتمنح الطمأنينة والتأمل والمزيد من التشبث بالنقاء، الذي تكمله نافذتها المطلة على مدخل القلعة وحلب القديمة.

بدأ بناءها الأمير سيف الدولة الحمداني الذي حكم عام 809 هجرية، الذي أعلن نفسه سلطاناً عليها عام 1406 ميلادية، ثم أكمل السلطان المملوكي المؤيد شيخ بناء السقف الخشبي للقاعة عام 1417 ميلادية، أمّا السلطان قايتباي، فقام بترميم قاعة العرش في القرن 16 الميلادي، ثم رممت عدة مرات، آخرها 1973 ميلادية، وحالياً يتمّ ترميمها، وإعادتها للحياة بعد العشرية الإرهابية وانتصار سوريتنا الحبيبة.

 

المهندس قاسمو متحف وتشريفات

وعن قاعة العرش قال المهندس تميم قاسمو ممثل جمعية العاديات في لجنة حماية حلب القديمة: بدءاً من اسمها “قاعة العرش” ودلالاته الموحية التي ترتبط بجمع الناس في الحكم والمجالس وخصوصاً المثقفين، نجد أنها إطلالة على حلب وناسها، كونها ترمز إلى مركز الحكم والقوة والعدالة والقانون، فالقلعة قيمة رمزية محلية وعربية وعالمية، وقاعة العرش مقدمة هذه القيمة التي تعطي دلالة الدفاع، وأيضاً، ولأن قاعة العرش مقدمة لهذا الموقع الأثري الحضاري، والبرج المتقدم أيضاً، فهذا يعني أنها الأهم لأنها المدخل المضيء للدفاع، ولأنها الهجوم في الوقت ذاته، كما أنها مخصصة للحاكم.

وتابع المهندس تميم قاسمو: أراها من خلال ارتباطها برمزيتها ومخيلتي وسردياتي، وبالتالي، لا بد من التركيز عليها، وتوظيفها بطريقة معاصرة، وأتوقّع أن تكون “قاعة تشريفات حكومية” على مستوى عالٍ، لكبار الزوار من رؤساء دول وغيرهم، أي توظيفها للاستقبالات الدبلوماسية، بحيث تكون جزءاً من الزيارات الدبلوماسية والثقافية والسياحية، لتواصل قيمتها الحضارية المؤثرة، بمختلف الوسائل الممكنة: مثل شرح التأريخ بالكلمات والصور والمجسمات، والتعريف بالشخصيات التاريخية لقاعة العرش، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة من خلال شاشة عرض للأفلام التوثيقية والمكتشفات الأثرية والمخطوطات والكتب والآثار.

واقترح قاسمو أن يتم تزيينها بما يناسب تراثها التأريخي، وتكون متحفاً مصغراً وموقعاً ثقافياً وفنياً وسياحياً لحلب وقلعتها، ومن مر عليها من حكّام ومدمرين، عبْر العصور المختلفة، لتبدو منذ الآن وإلى الماضي العريق، ومنذ الآن وإلى المستقبل البعيد، كيف تجاوزت أعداءها وانتصرتْ عليهم جميعاً.