مجلة البعث الأسبوعية

من يحاسب الجهات العامة الرافضة لتنفيذ الأحكام القضائية المبرمة؟ مجلس الدولة تحرر من قبضة الحكومة.. والقضاء الإداري بدأ إلزام الجهات الحكومية بتصحيح قرارتها المخالفة!!

“البعث الأسبوعية” ـ علي عبود

أصدر السيد الرئيس بشار الأسد، في 19 كانون الثاني 2021، مرسومين بتنفيذ عقوبة العزل التي فرضها مجلس القضاء الأعلى بحق قاضيين، وذلك على خلفية ارتكاب مخالفات وأخطاء قانونية. وخلال عام 2020، تم عزل 5 قضاة وإحالة 48 آخرين للمجلس للأسباب نفسها، ما يعني أن الجسم القضائي مُراقب على مدار اليوم كي يبقى موضع ثقة المواطنين لأنه الملجأ الأخير لاسترداد حقوقهم ورفع الظلم عنهم وإنصافهم مهما طالت الإجراءات القضائية.

ولو عدنا إلى السنوات الماضية، سنكتشف أن مجلس القضاء الأعلى بالمرصاد لاجتثاث أي خلل يصيب الجسم القضائي، تارة بلفت النظر أو بالنقل، وتارة بالعزل، أي حرمان القضاة المرتكبين للمخالفات والأخطاء القانونية من مزاولة المهنة إلى الأبد؛ وفي عام 2005، تم عزل 81 قاضياً بمراسيم رئاسية،

ولكن.. إذا كان عزل القضاء مستمراً بهدف إبقاء القضاء بخير، فإن الأكثر أهمية أن تُنفذ الأحكام القضائية، وبخاصة المبرمة منها، التي اكتسبت الدرجة القطعية، لأن جهات عامة، وبخاصة بعض المحافظين، يرفضون تنفيذ هذه الأحكام، فمن يحاسب الرافضين لتنفيذ الأحكام القضائية؟

 

شكايات كيدية لتشويه سمعة القضاة

ونلفت هنا إلى أن عمل القضاة حساس جداً، فأحكامهم لا ترضي الجهات المتضررة التي تعتدي على حقوق الآخرين، لذا من المتوقع أن ترفع الشكايات بحق القضاة وتصف أحكامهم بالمتحيزة. ولكن الواقع يؤكد أن ربع الشكاوى “كيدي” هدفه الانتقام وتشويه السمعة، أما أغلب الشكايات فسببها خطأ بتفسير أو بفهم القانون، أو معلومات غير دقيقة، والسؤال هنا: من يفصل بصحة الشكاوى؟

لقد أوكل قانون السلطة القضائية إلى جهاز إدارة التفتيش مراقبة سلامة الإجراءات الأصولية وتدقيق صحة الأحكام الصادرة عن الدوائر القضائية، وما يرد من شكاوى حولها. والمهمة الأساسية لجهاز التفتيش، الذي يضم خبرات قانونية رفيعة، تعزيز استقلالية القضاء وحمايته من الاتهامات والشكايات الكيدية والتحقيق في مخالفات القضاة المرتكبة عن سابق تصميم!!

ونشير إلى أن الجهاز تلقى في العام الماضي 1119 شكوى جديدة، تم حفظ 285 منها لعدم أحقيتها أو ثبوتها. وليس بالضرورة أن ينتهي التحقيق في الشكاوى الصحيحة إلى إحالة القاضي إلى مجلس القضاء، فغالباً ما يكتفي الجهاز بلفت نظر القاضي المعني، وقد تم في العام الماضي مثلاً لفت نظر بحق 142 قاضياً، وهذا الإجراء يتخذ مع مخالفات لا تستوجب الإحالة للمجلس.

وعلى عكس ما يرى البعض، فإن إحالة القاضي إلى مجلس القضاء الأعلى ليست إدانة، بل إن القاضي النزيه والواثق جداً من أحكامه وقراراته يجد، بإحالته إلى المجلس، فرصة لإثبات عدم صحة أو مصداقية الشكوى الواردة بحقه، بدلاً من أن تبقى “معلقة” ومتداولة على الألسن لفترة طويلة. وحتى في جال ثبوت صحة الشكوى، فإن العزل ليس العقوبة الوحيدة، وإنما هي العقوبة القصوى، أو الأخيرة، فالعقوبات تتدرج أمام مجلس القضاء الأعلى من عدم مسؤولية، ثم لوم، ثم قطع من الراتب، ثم تأخير ترفيع من 6 أشهر لسنتين، ثم العزل.

 

آلية محاكمة القضاة

والأهم ان إحالة القاضي إلى المجلس الأعلى لا تكون إلا بموجب زلة مسلكية، أو خطأ مهني يستوجب المحاسبة؛ والأكثر أهمية ان التحقيقات لدى إدارة التفتيش سرية وفق القانون.

ويوضح رئيس إدارة التفتيش القضائي القاضي، ماهر بدوي، أن الجهاز لا ينتظر ورود الشكاوى بل يقوم المفتشون القضائيون في جميع العدليات بتفتيش دوري كل ثلاثة أشهر، وهذا التفتيش يتضمن سلوك القاضي ومظهره وتقيده بالطابع العام، ومراجعة عينة من قراراته، وفيما إذا أخذت كفايتها لتكون سليمة؛

ولعل أبرز مهمة للتفتيش القضائي التأكد من عدم تدخل أية جهة بعمل القاضي، بما يصون استقلالية القضاء. أما آلية محاكمة القضاة – كما يكشف القاضي بدوي – فهي كالتالي: يطّلع القاضي على الإضبارة المتعلقة به، والتقرير التفتيشي، وجوابه، وتقرير مفتش المحافظة والإدارة، وقرار الوزير، وكل المرفقات، ويستمهل للجواب، ثم يتقدم بإجاباته، ويناقشها أمام مجلس القضاء الأعلى، ثم يتداول المجلس بالمعطيات ويصدر حكمه.

 

القاضي عدو نصف الناس

وكما أشرنا، فقد شهد العام الماضي صدور عدد كبير من القرارات التي تضمنت عزل قضاة بعد ثبوت ارتكابهم أخطاء جسيمة ومخالفتهم قواعد السلوك القضائي، كما تم تغيير محامين عامين ورؤساء محاكم جنايات واستئناف. وبالمقابل يحرص مجلس القضاء الأعلى على تقديم الثناء للقضاة لجهودهم التي يبذلونها في أدائهم لعملهم وقيامهم بواجبهم القضائي على أكمل وجه.

ولم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها الجسم القضائي مثل هذه التغييرات، لأن مجلس القضاء الأعلى يحرص دائماً على تنقية القضاء لبيقى الملاذ الآمن، لمن يلجأ إليه ليسترد حقوقه المسلوبة، ولينصفه ويرفع عنه المظالم.

ولطالما أكدت وزارة العدل أن لا سلطةَ تعلو على سلطة القانون، وأن محاربة الفساد أولوية، وهي عامة وشاملة، ولن تستثنى أحد من المخطئين الذين يعتقدون أنهم قادرون على تعكير صفو عملية التقاضي على اختلاف درجاتها، أو التقليل من ثقة المواطن بقوة وعدالة سلطته القضائية التي لا هم لها، ولا اهتمام، إلا إحقاق الحق وتحقيق العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه.

وما يساعد القضاء في أداء مهمته الكم الكافي من الخبرات والكفاءات الموجودة فيه، والتي يتم دعمها ومساندتها والثناء عليها وتكريمها، ليس معنوياً فقط وإنما مادياً أيضاً.

وتشير وزارة العدل مراراً إلى أهمية دور الإعلام في تسليط الضوء على مكامن الخلل والفساد المقرون بالوثائق والثبوتيات التي تساعد في تحريك وإقامة الدعوى بحق الفاسدين والمتورطين وإنزال العقوبة الرادعة بحق كل من تسول له نفسه المساس أو الاعتداء على أي من الحقوق العامة أو الخاصة التي نص عليها الدستور والقوانين والتشريعات.

صحيح أنه لا يوجد أحد في العالم قادر على تحقيق العدالة المطلقة – وهذا أمر لا يجادل فيه أحد – ولكن القضاء يسعى لتحقيق عدالة أقرب ما تكون إلى الكمال، والبعد والاقتراب من العدالة المثلى أمر نسبي، فالحكمة الشهيرة تقول: “القاضي عدو نصف الناس إن عدل”!

 

محافظون لا ينفذون الأحكام القضائية

وقد لا يكون فوز مواطن، أو متضرر، بحكم قضائي مبرم، نهاية المطاف؛ ففي حالات كثيرة ترفض جهات عامة تنفيذ الأحكام القضائية المبرمة التي اكتسبت الدرجة القطعية، وبخاصة بعض المحافظين!!

والأمثلة كثيرة، أبرزها رفض محافظ سابق تنفيذ الأحكام المبرمة. والسؤال: إذا لم يستطع المتضرر الحصول على حقه عبر القضاء، فإلى من سيلجأ؟

والحقيقة، لا يكفي أن يكون القضاء بخير، إذ يجب ان تُلزم الجهات العامة، وبخاصة المحافظون بتنفيذها، فما فائدة هذه الأحكام إن لم تكن ملزمة للجهات التي صدرت بحقها؟

لقد شهدنا في السنوات السابقة الكثير من الأحكام التي لا تنفذ، أو تنفذ حسب مزاجية وانتقائية الجهات الحكومية، وبالتالي فإما تنفذ، أو تتحول إلى قصاصات ورقية ينتظر أصحابها تغير الأشخاص أو الوقائع لمصلحة العدل والعدالة. أليس ملفتاً رفض بعض المحافظين تنفيذ الأحكام المبرمة؟

 

هل انتهى التدخل بالقضاء الإداري؟

وإذا كان القضاء بمنأى عن تدخل السلطة التنفيذية، فإن الأمر مختلف جذرياً في القضاء الإداري الذي كان في قبضة الحكومة حتى وقت قريب. وتبعية القضاء الإداري للسلطة التنفيذية ظاهرة شاذة عانى منها الكثير من المتضررين، وكان بعض القضاة يصدرون قرارات وأحكام مخالفة للدستور وللقوانين والمراسيم الرئاسية تنفيذاً لتوجيهات شفوية من رؤساء حكومات ووزراء. وكانت المشكلة في المادة الأولى من قانون مجلس الدولة التي تنص على أن “مجلس الدولة هيئة مستقلة تلحق برئاسة مجلس الوزراء”!! فكيف كان لمحكمة قضائية أن تكون مستقلة وهي “ملحقة” برئيس الحكومة؟

ولنكن أكثر دقة، ونسأل: من القاضي الذي كان يملك الجرأة لإصدار أحكام تلغي القرارات الحكومية المخالفة لمراسيم وتشريعات رئاسية؟

وها هو رئيس مجلس الدولة، عبد الناصر الضللي، يكشف أنه في ظل القانون الجديد “تم فسخ الكثير من القرارات الإدارية المخالفة التي صدرت عن رئيس مجلس الوزراء السابق وبعض الوزراء الحاليين”، مؤكداً أنه لا يوجد قرار محصن أمام القضاء باعتبار أن القانون الجديد نص على ذلك.
طبعاً، لم يكن لقضاء مجلس الدولة أن يفعلها في السابق لأن القضاء الإداري كان يتبع لرئيس الحكومة، ولكن بموجب التشريع الجديد أصبح المجلس مستقلاً عن مجلس الوزراء.. وخصوصاً في “مراقبة أعمال الإدارة من خلال القرارات والدعاوى المرفوعة في المجلس ومن دون تدخلٍ من أحد”.

وأكد القاضي الضللي “أن العقود والقرارات التي تأتي إلى المجلس إذا كان فيها حق لمواطن أو شركة ما تتم معالجتها ويأخذ حقه وفق الإجراءات القضائية”!

واستقلالية القضاء الإداري بموجب التشريع الجديد تحمي المظلومين والمتضررين، والدليل على ذلك أن المجلس أصدر الكثير من القرارات بإعادة الموظفين “الذين خرجوا بحكم المستقيل”، لأن قرارت “طردهم” من عملهم كانت بفعل قرارات تعسفية من إدارتهم، كما أن المجلس أعاد عقوداً كثيرة مخالفة إلى الإدارات الحكومية. والملفت في صلاحيات مجلس الدولة – حسب القانون الجديد – النظر في أي عقد تجاوزت قيمته 150 مليون ليرة، ولوكان صادراً عن رئيس الحكومة، أو أي لجنة حكومية.. وفي حال كانت فيه مخالفة، يعاد ثانية إلى الجهة التي وقعته لتصحيحه!

ويمكن القول أن مجلس الدولة بدأ بفعل استقلاليته النافذة مع سريان قانونه الجديد على مسار استعادة الثقة بقراراته بعد عقود من تبعيته الكاملة لتوجيهات الحكومة. ولا شك أن الثقة، بل والقناعة، باستقلالية مجلس الدولة، وبخاصة في القضايا المتعلقة بالتحكيم، ستشجع المستثمرين المحليين والأجانب على الإستثمار في سورية، لأن قانون المجلس ضمن السرعة في البت بهذه القضايا، بل هي قرارات مبرمة، في حين كانت سابقاً تقبل الطعن، وأي قرار تحكيمي “لا يجوز أن يبقى أكثر من شهر”.
وأوضح الضللي أن طبيعة الدعوى في القضاء الإداري تختلف عن القضاء العادي، ففي القضاء العادي هناك قانون موجود، على حين في الإداري يكون قضاء إنشائياً، أي إن لكل دعوى خصوصيتها، ويتم الاعتماد على الاجتهاد، ولذلك يقال إن “القاضي الإداري أمير النص وليس أسير النص”.

 

بالمختصر المفيد

عزل القضاة المخالفين ظاهرة صحية تؤكد على أن القضاء بخير، لكن يجب إيجاد حل جذري لرفض جهات عامة، وبخاصة بعض المحافظين، تنفيذ الأحكام القضائية المبرمة!!