تحقيقاتصحيفة البعث

عندما يغيب الأب.. أعباء تثقل حياة الأسرة ومسؤوليات تربوية مضاعفة

لم تترك طريقة إلّا واتبعتها في محاولة منها لتضبط سلوك ابنها ذي الأحد عشر عاماً بعد أن غادر والده البلد بهدف تحسين الوضع المعيشي الذي لم يعد يُحتمل خلال سنوات الأزمة في ظل غلاء فاحش ومنزل بات تحت الأنقاض، لكن الضريبة الكبرى دفعتها الأم والأبناء، إذ لم تعد قادرة على تربيتهم وحدها، خاصة وأنهم وصلوا إلى سن المراهقة التي تحتاج وجود الشريكين لضبط سلوك الأبناء في هذه المرحلة الصعبة، ليصل الأمر بأحد أبنائها إلى دخول السجن بعد انحراف سلوكه وضياعه في مجتمع بات كالغابة في ظل الأزمة التي نعيشها، ليكون الثمن الذي دفعه الأب نتيجة سفره لتأمين لقمة العيش غالياً وقاسياً. وعلى الرغم من أن المرأة السورية بصورة عامة قد أثبتت خلال الأزمة من الجدارة والمسؤولية والحنان والصبر ما يفوق قدرة الرجل في إبراز جميع المعاني الإنسانية، فكانت الأم والأب والصديق لأبنائها في غربة آبائهم وفي غيابهم نتيجة الوفاة، واستطاعت أن تسدّ الهوة التي أنتجها غياب الأب عن أبنائه مع محافظتها على وظيفتها الأساسية كأم حنون تجمع أبناءها في حضنها تحت سماء هذا الوطن، إلّا أننا لا نستطيع أن نغفل دور الأب الأساسي في تربية الأبناء وتوعيتهم والوقوف إلى جانبهم في مراحل حياتهم.
الأبناء يضرسون
أظهرت دراسة حديثة أن زوجات الموظفين ورجال الأعمال الذين يسافرون كثيراً أكثر عرضة للإصابة بمشكلات نفسية وعقلية بنحو ثلاث مرات من زوجات الموظفين الذين لا يسافرون، ما يؤكد الأثر السيئ لغياب الزوج عن زوجته، وتحدثت الدراسة عن أهم الأسباب التي تدفع الآباء للسفر خارج البلد وترك أسرهم، ويقف في مقدمتها الحلم بحياة أفضل والرغبة في التحرّر من الفقر. ويؤدي السفر -حسب الدراسة- إلى زعزعة الثقة بالنفس، كما أنهم سيشهدون تحطّم أحلامهم وعلاقاتهم الاجتماعية التي كانت تجلب لهم الاحترام في بلدانهم، وتترك الفروق الثقافية بين البلد الأصلي وبلد الهجرة الذي يستقبلهم تأثيرها البالغ على الشعور بالانتماء إلى البلد الجديد. في المقابل ذكرت الدراسة أن الأبناء هم من سيدفعون ثمن قرار لم يشتركوا في أخذه، فالطفل يحتاج للتوازن التربوي الذي يحقّقه وجود الأب والأم معاً، فرغم التدخل البسيط للأب في شؤون الطفل اليومية إلا أنه بذلك يلعب دوراً كبيراً في نمو وتطور الطفل والشاب أيضاً، ولهذا تشير نتائج أحدث الدراسات التربوية إلى مدى تأثير الحالة الاجتماعية وحضور الآباء الفعّال على تقدم الأطفال في مراحل التعليم المختلفة بداية من فترة الحضانة الأولى، فالأطفال الذين ينحدرون من أسر طبيعية بين أب وأم وُجد أنهم يتمتّعون بقدرات أفضل فيما يتعلق بالقراءة والكتابة وإجراء العمليات الحسابية من أقرانهم الذين ترعرعوا في كنف أسر من دون أب، حيث تتحمّل الأم هنا كافة الأعباء النفسية والاجتماعية والاقتصادية.

انحراف الأبناء
الأسرة المتوازنة هي التي تقوم على وجود شريكين حقيقيين في تكوين هذه الأسرة هما الأب والأم، المسؤولان بالتساوي عن إنشاء أسرة متكاملة متوازنة تساهم بشكل حقيقي في بناء المجتمع، وفي حال اختفى أحد هذين العمودين الأساسيين في الأسرة سيختل التوازن وينعكس بشكل سلبي ومباشر على الأبناء، برأي الدكتورة رشا شعبان (علم اجتماع) التي اعتبرت أن هجرة الأب وسفره للعمل خارج البلد هي أقسى من خلو المنزل من الآباء نتيجة وفاة الأب، فالشعور بفقدان الأب بشكل نهائي أمر يعتاد عليه الأبناء مع الوقت، لكن إحساسهم وعلمهم أنه موجود في بلد بعيد لا يستطيعون رؤيته إلا لأيام معدودة في السنة هو أمر يحمل بين طياته أشدّ أنواع القسوة، حيث يعتمد الأطفال هنا في تربيتهم على أمهاتهم اللواتي سيفتقدن أيضاً عنصر الحماية في المنزل، الأمر الذي سيحتّم عليها لا شعورياً اكتساب بعض الصفات الذكورية لحماية أبنائها وتخسر في المقابل صفة حنان الأم، وبالتالي سينتج حتماً خلل في التوازن التربوي وسينطبع في نفوس الأبناء نموذج الأسرة غير المكتملة، وفي معظم حالات سفر الأب للعمل في الخارج وغيابه لسنوات عديدة سيؤدي إلى انحراف الأبناء، وخاصة إذا كان الأبناء ذكوراً، فالأب بالنسبة لهم هو رمز للقوة والسلطة والحماية، إضافة إلى جانب شعور الأبناء بالغربة عن والدهم حين عودته وعدم قدرتهم على تحمّل تدخله في حياتهم التي اعتادوا عليها لسنوات عدة.

ميس بركات