تحقيقاتصحيفة البعث

الجهاز الطبي السوري في مرمى الاستهداف: أعباء وضغوط اقتصادية واستقطاب مريب إلى خارج الحدود!

“مُكرهٌ أخاك لا بطل”، بهذه الجملة عبّر الدكتور سامر. ع عن وضعه الذي أجبره للسفر إلى “اليمن السعيد”!، حيث استطاع عن طريق أحد مكاتب السفر التي تنشط حالياً، وتقدّم الكثير من الوعود والمغريات للأطباء، تأمين عقد عمل لمدة سنة كاملة، على أمل أن يتمكّن من جمع مبلغ مالي يمكّنه من تأمين بيت يؤويه، واقع بات ينطبق على آلاف الأطباء، بغضّ النظر عن أعمارهم. ويرى الدكتور سامر أن أصعب الحروب تلك التي تحدث بين الشخص وذاته، قائلاً: صراعي مع ذاتي يتمثّل بعدم الرغبة، بترك البلاد وفي الوقت عينه استحالة القدرة على الاستمرار في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وخاصةً مع وجود طفلين، ليكون الخيار بين أمرين أحلاهما مرّ: إما المغامرة والسفر أو انتظار المجهول!

خارج الحدود هناك من يدرك الأهمية الكبيرة للقطاع الطبي في سورية، ما جعله تحت أنظار كثيرين يعتقدون – ربما – بإمكانية إحداث خرق ما باستهدافهم لهذا القطاع، من خلال العمل على إفراغه من عصب كوادره ممثلاً بالأطباء والممرضين، ما يحتّم على المعنيين إيلاء كل الاهتمام له، والوقوف عند معاناة كوادره المتروكين في مهب الريح، والبحث مطولاً عن حلول لمشكلات هذا القطاع الحساس.
حديث مثير سمعناه من عشرات الأطباء، عن واقعهم وظروف عملهم ودراستهم، وشجونهم بعيداً عن الغرق بالتنظيرات، حديث يُعنونه البعض بـ “الهجرة الثانية للأطباء”، والتي بتنا نلحظها وبشكل كبير في الآونة الأخيرة، ولأسبابٍ كثيرة، أولها الوضع الاقتصادي والصعوبات اللوجستية التي يفرضها واقع العمل وما يتخلله من قرارات مجحفة وبعيدة عن المنطق، منفصلة عن الواقع كما يراها معظم الأطباء.

ضغوط داخلية

الدكتور محمد أكرم الشرع مؤسّس موقع “سماعة حكيم”، أكبر الصفحات الطبية في سورية، عرض في حديث له مع “البعث” للضغوط الداخلية التي لا يمكن حصرها، والتي يأتي في مقدمتها غياب مفاضلة موحدة للوزارات، التي تعمل الهيئة السورية للاختصاصات منذ أكثر من سنتين لإصدارها موحدة، لتكون نتيجة ذلك عدم وجود مكان يستقبل الطبيب الراغب باختصاص معيّن، ولأسباب كثيرة، أولها العدد الكبير الذي يتمّ قبوله في كليات الطب، إضافة إلى الضغط الكبير الذي أحدثته الجامعات الخاصة والتي تقوم أساسا على الكليات الطبية، والنتيجة طبعا استحالة استيعاب هذه الأعداد الضخمة مع غياب البنية التحتية الكاملة والمخابر ونقص الكوادر الطبية، وكلية الطب في محافظة حماة مثال صارخ على نقص الكوادر، لافتقارها لأساتذة “الطب البشري”، ما اضطر المعنيين هناك لتعيين طبيب بيطري لتدريس طلاب السنة الثانية والثالثة! ونتيجة لعدم وجود أساتذة باختصاص معيّن، لن تتمكّن الوزارة من قبول أطباء بهذا الاختصاص، أيضا وأيضا غياب اختصاص أمراض الدم في جامعة حلب، ومردُّ ذلك عدم وجود أساتذة في هذا الاختصاص، ما اضطرهم لإغلاق القسم، واقتصاره على جامعتي دمشق وتشرين.  

التعليم العالي

ويضيف الشرع: تقوم وزارة التعليم العالي بالإعلان عن 2500 مقعد للاختصاص على سبيل المثال، ولكن ما يحصل، أن أكثر من نصف هذه الاختصاصات لا يرغب بها الأطباء كالأشعة وطب الطوارئ أو التخدير، فمثل هذه الاختصاصات لا مستقبل لها هنا، ما يجعل مشكلة الاختصاص أساس المشكلات التي تقف عائقاً أمام أحلام الأطباء، ليأتي بعدها ضغط العمل الكبير مقابل 50 ألف ليرة للطبيب المقيم، ما يجعله عرضةً لاستغلال المشافي الخاصة، التي بدورها تستغل حاجته المادية، وتستنزف طاقاته الجسدية والنفسية مقابل مبلغ زهيد، وأيضا ساعات العمل الطويلة، مع عدد مناوبات قد يصل إلى 7 أو 10 مناوبات، في الشهر، غير معترف بها وغير مأجورة. أما الحديث عن المنامة والطعام المُقدّم والذي لا يليق أبداً بإنسان فهو موضوع آخر وذو شجون، ما يضطر الطبيب إلى أن يشتري الطعام من حسابه الخاص، أضف إلى كل هذا مشكلة المواصلات غير المؤمنة، والتي تعدّ وجعا يوميا، حيث تعتبر بعض المشافي أنها حقٌ لموظفيها فقط، تُمنعه عن الأطباء المقيمين على اعتبار أنها ليست من ضمن حقوقهم!
والكارثة الحقيقيّة – بنظر د. الشرع – تتمثل بسنة الامتياز، التي أُضيفت من غير وجه حق ومن غير سابق إنذار ومن دون مبررات واضحة، وخاصةً مع وعود كثيرة لم يتحقّق منها شيء، سنةٌ تمّ فرضها على الطبيب المقيم، ما أخَّر تخرجه ومزاولته للمهنة بالشكل الحقيقي، حيث لا برنامج عمل واضحاً، وتغيّر في الشروط، وصدور قرارات متعارضة.

ضغوط خارجية
الدكتور ع. ج يرى أن دراسة الطب ستصبح مع الوقت حكرا على الأغنياء، لأن المكتفي ماديا سيتمكّن من متابعة تعليمه واستغلال وقته بعيداً عن الضغوطات المعيشية، عكس الآخر الذي سيضطر للعمل والدراسة في محاولة للتأقلم مع الظروف، مضيفا: نعم هو طرحٌ قاس ولكن هذا الواقع الذي يعيش فيه 70 بالمئة من الأطباء، وهذا من وجهة نظره ما جعل السفر الخيار الوحيد، علما أنه ليس بالأمر السهل، ليكون الطبيب بذلك عرضة لاستغلال مكاتب السفر التي تطلب مبالغ كبيرة تصل إلى خمسة ملايين ليرة مقابل تقديمها خدمات معينة، مضيفا: سابقا كانت وجهة السفر إلى دول الخليج التي تضع شروطا معينة، كإجراء “امتحان برومترك” وداتا فلو للشهادات، وبسبب تعذّر إجراء هذين الشرطين في سورية، سارعت مكاتب السفر لاقتناص الفرصة واستغلال الأطباء الراغبين بإجرائهما في الخارج، بتكاليف باهظة، وطبعاً كل هذا بالعملة الصعبة!
لذلك نرى السواد الأعظم من الأطباء الراغبين بالسفر غيَّروا وجهتهم إلى دولٍ كالصومال واليمن والعراق وليبيا، دولٌ لا يتطلب السفر إليها إجراء امتحان أو شرط لغة، – تقدم رواتب أقل مبلغ فيها يصل إلى 1500 دولار، مع أنه لا يعتبر مبلغا كبيرا وينتقص من مكانة الطبيب السوري – وهو مبلغ، على قِّلته، يبقى بنظر الطبيب أفضل بكثير من 50 ألف ليرة سورية، لذلك يختار السفر مهما كانت ظروف العمل صعبة وسيئة “عمل غير مرخص” مع راتب زهيد قد لا يتجاوز راتب مستخدم هناك، وضغوط تصل للتهديد في حال انتهاء الإقامة دون تجديدها، كما في الصومال والعراق، أضف إلى ذلك استغلال المراكز الصحية للطبيب السوري، مضيفاً أن أحد المراكز الصحية في العراق، نسبته من أي عملية تُجرى فيه 50 بالمئة و40 بالمئة للطبيب العراقي، بينما يحصل الطبيب السوري الذي أجرى العملية بمفرده على 10 بالمئة فقط، مع تحمّله لمسؤولية أي خطأ طبي قد ينتج.. حادثة أخرى لطبيب آخر تعرض لعملية نصب في العراق، وبقي يتنقل من مكان إلى آخر، مع دفعه لمبلغ مالي في كل مرة يُغيِّر فيها مكان إقامته، لتنتهي بعدها الفيزا السياحية، ويتعرض للابتزاز والتهديد.

واقع مخيف
إحدى الطبيبات التي أيضاً فضّلت عدم ذكر اسمها تحدثت لـ”البعث” عن واقعٍ مخيف بتنا نشهده في الوسط الطبي، يتعلق برغبة معظم من تعرفهم بالسفر كخيارٍ وحيد! مضيفةً: نحن نعلم علم اليقين أننا نهرب إلى واقع قد يكون أسوأ، ولكن ما وصلنا إليه بات صعباً وأجبر الكثير من زملائنا على إغلاق عياداتهم، والاكتفاء بعدد معيّن من المرضى، بسبب العبء المادي الكبير ومصاريف العيادة من “كهرباء ومولدات وفواتير أخرى لم تكن بالحسبان”، متسائلة: هل يعقل أن أستاذا في كلية الطب البشري لديه خبرة لا تقل عن 14 سنة يفكر بالسفر؟ مثال آخر لإحدى زميلاتي وهي بعمر 50 لديها خبرة 15 سنة تبحث عن عقد عمل في دول كاليمن والصومال، وطبيب آخر بخبرة 27 سنة ترك كل شيء خلفه، عيادته وعائلته وجامعته، بحثاً عن عملٍ في أربيل!، مختتمةً حديثها بالقول: لم يعد خيار الهجرة والسفر مقتصرا على الأطباء في سن صغيرة، بل بات الأمر ينسحب على معظم الأطباء مهما كان عمرهم.

السمعة الطيبة
لا شك أن الظروف الاقتصادية السيئة تركت آثارها على جميع السوريين، ولكن تبقى فرصة الأطباء بالسفر وسهولة استقطابهم أكبر لما للطبيب السوري من سمعة حسنة، في الأوساط الطبية العالمية، لذلك لا بد من العمل وبذل كل الجهود الممكنة وتذليل الصعاب أمامهم لوقف هجرة الأدمغة، ومما لا شك فيه أن هجرة الأطباء واستنزاف العقول موضوع شائك جداً، ولا يمكن حلَّهُ إلا من خلال تكاتف كل الوزارات والجهات المعنية بالأمر، وفي المقدمة وزارتا الصحة والتعليم، وإعطاء الهيئة السورية للاختصاصات صلاحيات أكبر لتقوم بدورها، وضرورة زيادة الفرص والتجهيزات الطبية والكوادر البشرية التي هي عصب القطاع الصحي، حتى لا نضطر في المستقبل القريب، لاستقدام الكفاءات من الخارج لتعليم أبنائنا ومعالجتهم “صحياً”، ولتكن تجارب جيراننا درساً لنا، حتى لا نصل إلى ما وصل إليه الآخرون، ونصبح أمام مشهد طبي مخيف ومستقبل مجهول.

لينا عدرة