دراساتصحيفة البعث

بايدن والعلاقات الأمريكية- الأوروبية

ريا خوري

على الرغم من أن مسار العلاقات الأمريكية- الأوروبية منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام ١٩٩٠ قد اتخذ منحى جديداً مبنياً على تحرك الولايات المتحدة الأمريكية الانفرادي على الصعيد الدولي في مختلف بؤر الصراع الحادة، إلا أن تلك العلاقات لا تسير باستمرار على وتيرة واحدة، فهي في مد وجزر دائمين، ومهما ظهر من شواهد تشير إلى إمكانية استغناء الولايات المتحدة عن حلفائها الأوروبيين، إلا أن تجربة الأعوام القليلة الماضية، خاصة بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في آذار من عام ٢٠٠٣، تثبت أن أمريكا ربما كان بإمكانها أن تشن الحروب الطاحنة والمدمرة منفردة، ورغم ذلك، تحتاج فعلياً إلى جميع الأطراف، وعلى رأسهم الحلفاء الأوروبيون، لكي تكسب الأمن والسلام، أو تحقق الاستقرار في تلك المناطق التي شنت من أجلها الحروب، ولعل أبرز عوامل بقاء التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا المصالح المشتركة، لكن الأوروبيين لديهم أزمة ثقة حقيقية بالحليف الأمريكي، وكان الرئيس السابق دونالد  ترامب قد زرعها وعززها في نفوسهم وعقولهم، ولن يكون رحيله عن البيت الأبيض كافياً لاجتثاثها والانتهاء من استحقاقاتها وآثارها السلبية.

في حقيقة الأمر، إن الخطوط العريضة لملامح السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جو بايدن التي أعلنها بنفسه قد جاءت متوافقة تماماً مع التوقعات والإشارات والمواقف المصممة الصادرة عنه طوال حملته الانتخابية، التي تم وصفها بالرصينة، والمتوافقة أيضاً مع التوجهات والمواقف التقليدية للديمقراطيين، لقد نقض بايدن العديد من سياسات وقرارات ترامب الجمهوري، وكان هذا متوقعاً على الصعيدين الخارجي والمحلي، وبقدر ما كانت الخلافات كبيرة ومتضخمة  بين الإدارتين، فهي معروفة لدى الكثيرين، لذا فإن نقاط التقارب القليلة جداً بينهما في السياسة الخارجية معروفة أيضاً، وأهمها التصدي لأكبر دولتين في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وهما: الصين الشعبية، روسيا الاتحادية، وإن كانت أساليب المواجهة ستختلف بالتأكيد عن كل ما سبق.

ربما يكون العمل على ذوبان الجليد المتراكم على الجسور بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي أكثر أهمية للرئيس الأمريكي في الوقت الراهن، على ضوء التحالف الاستراتيجي التاريخي بين الجانبين، ومن المتوقع أن يسعى بايدن إلى إصلاح وترميم ما أفسده ترامب، الذي ألحق خسائر كبيرة مؤكدة بالعلاقات الوطيدة بين الحليفين على جانبي المحيط الأطلسي، لقد وصف أحد الدبلوماسيين الأوروبيين العلاقات مع الولايات المتحدة بأنها وصلت إلى أسوأ مستوياتها في التاريخ الحديث والمعاصر، بما في ذلك مرحلة الخلاف الشهير إبان احتلال العراق عام ٢٠٠٣، لذلك لن تكون مهمة بايدن الإصلاحية سهلة أو مضمونة النجاح، على الرغم من الترحيب الأوروبي الصادق بانتخابه.

الخلافات بين الحليفين تتجاوز في الحقيقة طبيعة وتوجهات الإدارة الحاكمة في الولايات المتحدة، وإذا كان ما يجمع بينهما كثيراً، فإن ما يفرقهما كثير أيضاً، لقد عمل بايدن على إيجاد حل سريع للخلاف الأسهل، خاصة ذلك المتعلق بالسياسات البيئية من خلال العودة إلى اتفاقيات باريس، غير أن قائمة الخلافات الجوهرية تشمل ملفات أخرى عديدة ومعقدة أهمها العلاقات مع روسيا والصين وإيران، والتصدي لفيروس كورونا، والخلاف المزمن حول التبادلات التجارية بينهم .

إحدى نتائج حكم دونالد ترامب، وربما مزاياه، أنه فتح عيون الأمريكان على أهمية تحقيق توازن أكثر عدلاً في التجارة بين الجانبين، ونبّه أيضاً إلى ضرورة زيادة مساهمة أوروبا في فاتورة الدفاع عن نفسها التي تتحمّل الولايات المتحدة العبء الأكبر منها، من هنا لن يستطيع جو بايدن ولا أي رئيس بعده التنازل عن هذه المطالب.

وإلى جانب خلافات الوقت الراهن، هناك تحديات المستقبل التي لا تقل صعوبة وأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، وهي استعادة هيبتها وقيادتها العالمية بعد سنوات ليست قليلة من السياسات الانعزالية والانكفاء على الذات تحت حكم ترامب، وستكون العلاقات مع أوروبا حاضرة بالتأكيد عند إعادة تقييم الولايات المتحدة لدورها في العالم، وهناك تحد آخر لا يمكن إغفاله هو قدرة الولايات المتحدة على تحقيق التوازن بين علاقتها التاريخية التي يجب الحفاظ عليها والدفاع عنها ودعمها مع أوروبا من جانب، وسعيها الحثيث لتعزيز تواجدها في آسيا من جانب آخر، ومدى نجاحها في ألا يأتي توسعها وتمددها شرقاً على حساب وجودها غرباً.

الأوروبيون من جانبهم لديهم أزمة ثقة مسبقاً مع الحليف الأمريكي، والتي زرعها ترامب في نفوسهم، ولن يكون رحيله كافياً لاجتثاث جذورها، وعليه لن يضمن الأوروبيون في ظل تعاظم التمدد اليميني الشعبوي في الولايات المتحدة أن يأتي رئيس آخر وينفذ ما هدد به ترامب يوماً ما، وهذا ما يفسر لماذا يتعالى الآن في الأجواء الأوروبية شعار يبدو غريباً على الأسماع هو (الحكم الذاتي) الاستراتيجي، بمعنى الاستقلال التام أو شبه التام  عن الحليف الأمريكي، أو عدم الاعتماد عليه في القضايا الاستراتيجية.