الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فقد.. الكتب!

قهر يتملكني، ويشقّ عليّ، ويبعثر روحي هنا وهناك، كلما سمعت أن أديباً أو كاتباً اضطرته ظروف الحياة وشجونها لبيع مكتبته كي تغدو الكتب طعاماً وشراباً وثياباً وسترة حال، بعد أن أنفق أجمل سنوات عمره وهو يجمعها لتصير مرجعية له، وأصدقاء، وزهوة لا يشعر بجمالها إلا من جالسها وتعلّم منها، وقد بادلته الأجوبة بالأسئلة، والامتلاء بالحيرة، والصواب بالتوهان، والرضا بالسخط، والهدأة بالشغب.

ليس من شيء أغلى وأهم وأبدى، عند الكاتب، من مكتبة تجاوره وتحيط به حتى لتصيرها حاضرة حضور أولاده، وأمانيه، وكلما تنفّس أو نادى أو سأل أو انهمّ، أو اختنق كانت هي فرجه ونافذته ودربه إلى كل مرتجى ومأمول، والأخبار والقصص والحكايات (القديمة والحديثة) الدائرة حول الكتب التي يسمع بها الكاتب، أو التي تقرّظ أمامه، أو التي يحتاج إليها.. كثيرة جداً، وليس المجال متاحاً الآن لاستعراض بعضها، وفيها الكثير من العبرة والدروس، مثلما فيها الكثير من المشاق والمتاعب والمساهرة، ولعلّ قصة الحصول على كتاب (كليلة ودمنة) قصة مشهورة يعرفها الكثيرون، وفيها المعاني الثقال التي تبذل من أجل الحصول على كتاب ذاع صيته، وانتشرت شهرته في بلاده وما حولها.

أقول هذا عن الكتب ومكتبات الأدباء، لأن أديباً ناقداً، ومثقفاً ملء العين والخاطر، في بلد مجاور لنا، أعلن عن بيع مكتبته التي جمعها في أمكنة الاغتراب التي عاش اجتماعها كتاباً كتاباً، وكان استحواذه على كل كتاب ابتغاه نصراً وفرحاً وتعزيزاً لروحه الكاتبة، أعلن عن بيع مكتبته، وأشار إلى أنها تشمل ثلاثة آلاف من الكتب العزيزة لأن شؤون الحياة ومتطلباتها لتحاصره، وأنه مكره على فعل هذه الفعلة غير الحميدة، لأن كتبه عاشت معه وقائع حياته من جهة فعرفت أفراحه وأحزانه، وكانت أول من يشعر بأناته وغصّاته وزفراته وأشواقه إليها مثلما عرفت وقائع تأليفه لكل الكتب التي أصدرها من جهة أخرى، لهذا فإن العلاقة بينهما علاقة انتظار وخصب وعودات، لابد منها للاستزادة المعرفية والامتلاء العقلي، أي علاقة استقرار تقف بوجه هذا الصخب الثقافي الذي لا يفضي إلى شيء، وبوجه هذا التهافت السياسي والارتماء في أحضان الأعداء، وبوجه غياب المعايير الأخلاقية مما جعل السواد يندلق على البياض فيصير الرمادي مهوى للنفوس والعقول والخطا التي لم تعرف نعمة الإبصار.

الكتب بالنسبة للكاتب قلعته الأوفى، وحصنه المكين، ومن دونها يشعر بأنه ضعيف، وبلا سند، وبلا أصدقاء، وبلا عزوة، خطوطه وتعليقاته على حواشيها وهوامشها هي مساراته الثقافية ودروبه التي مشتها خطاه وخواطره وأحلامه الإبداعية والكتابية، إنها، وعلى نحو ما، هي سيرته التي يعتز بها ويفتخر، ولكن تأتي لحظة ملأى بالعجز والحيرة تجعله يعلن عن بيعها، وهو بذلك يعلن مكرهاً تخليه عن تلك اللحظات الحميمة التي جمعته بكل كتاب من كتب مكتبته، وبكل فكرة نبيلة بحث عنها كما يعلن عن تخليه عن قصص شرائها أو اقتنائها، ومن أي مكان، ومن أي يد وصلت إليه، وكيفية هذا الاقتناء، والأفراح التي سكنت روحه حين سكنت تلك الكتب بين يديه أو فوق رفوف مكتبته، ألا يعني أمر كهذا الإعلان عن بيع روحه وحياته وثقافته وأصدقائه وسعادته وقلعته الأوفى وحصنه المكين؟! بلى يعني هذا، وأكثر، لهذا قال غوته، نجمة الألمان، الكتب حياتنا، وفقدها فقد الحياة. فهل من عين ترى، أو أذن تسمع، أو بصيرة تعي آلام الفقد، فقد الكتب التي تعادل في غيابها فقد الأعزاء من حولنا؟.

حسن حميد

Hasanhamid55@yahoo.com