مجلة البعث الأسبوعية

ساعة باب الفرج منهل الأمكنة وراقصة الأزمنة

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

تقف الساعة بشموخ عتيق في هذه الساحة المطلة على تاريخ عريق، مشرفة على مدينة حلب بدءاً من العلامات المكانية لعمارات ومواقع مميزة ثقافية وتعليمية وسياحية وأثرية وتسوّقية ملفتة، مثل دار الكتب الوطنية والفنادق والخانات والأسواق والعبّارة والتلل والمدارس والجوامع القديمة، معلنة بدقاتها المتشابكة مع دقات قلبك لحظة الصفر، أو لحظة الانتصار، أو لحظة الفرج والنصر بعد الصبر، لتوقن أنك، هنا، وجهاً لوجه مع ساعة باب الفرج.

ومعروف أن باب الفرج أحد أبواب حلب العريقة، ومعروفة ساعة باب الفرج، وكيف تشير إلى أهمية الزمن واستثماره في الحياة، واستثمار الحياة في الزمن، بطريقة جميلة، مفيدة، وممتعة، مشيرة بذلك إلى أهمية الوقت بالنسبة لأعمار الناس، وأهمية الوقت لإعمار حياة الناس، خصوصاً وأن الساعة تقف مثل الأبدية المطلّة على الناس من كل الجهات المكانية والزمانية والوجدانية، لتذكّرهم بأهمية أعمارهم، وأهمية الوقت لأعمالهم، وأن ما بين الماضي والحاضر لحظة واحدة هي المستقبل.

للمتأمل في هذه الساعة الشامخة ببرجها المبني عام 1898، البالغ طوله 20 متراً، بإشراف المهندسين بكر صدقي أفندي، وشارل شارتييه، العاملَين آنذاك في بلدية حلب، أن يجد كيف تحدق عميقاً في مبنى دار الكتب الوطنية وكأنهما في حوار دائم من جهة، وترصد الشارع المؤدي لمبنى مديرية الثقافة والسبع بحرات والمسجد الأموي “الجامع الكبير” وسوق المدينة وخان الوزير وخان الشونة من جهة ثانية، وتنتبه إلى حركة الناس العابرة إلى السوق الموصل لشارع بارون وضمنه تجد اتحاد الكتّاب العرب فرع حلب من جهة ثالثة، بينما تترك الشارع الأخير كجهة رابعة ليقودك أينما شئت بين متحف حلب الوطني والقلعة والمدينة الأثرية القديمة.

برج ساعة باب الفرج تحفة معمارية آثارية فنية تتسع عند القاعدة وتضيق قليلاً في الأعلى، تشبه المنارة أو المئذنة، كما أن شرفتها محاطة بـ “درابزون” حجري، يزيّن خصرها، وكأنها راقصة “سماح” و”فلامنغو” و”باليه” في آنٍ معاً، تتمايل مع حركة العقارب وحركات الجرس ناثرة الفرح والطمأنينة والتفاؤل والجدّيّة والإيجابية.

 

بيغ بن

وهذا الخصر الحجري يجعل برج الساعة قسمين: السفلي العريض الذي يتخذ حركة رباعية داخل حركة دائرية، والعلوي الذي يحتضن 4 فتحات دائرية، في كل جدار فتحة، وداخل كل فتحة قرص ساعة هي بحد ذاتها تحفة ميكانيكية أثرية، ومصنّعة من قِبل الشركة الإنكليزية ذاتها التي صنّعت ساعة “بيغ بن” اللندنية، لذلك، تسمى ساعة باب الفرج “بيغ بن حلب”، أو “بيغ بن سورية”، ما يجعل واجهاتها الأربعة تنبض بأربع ساعات، تشبه العيون المبصرة اليقِظَة، المتوزعة كما “النوتة” الموسيقية الزمانية إلى ساعتين متقابلتين تعزفان التوقيت العربي المحلي، وساعتين متقابلتين تعزفان التوقيت الغربي، بينما في الأعلى نجد جرساً ينبّهنا للوقت، وجهازاً يعرّفنا باتجاه الرياح.

وهكذا، تتجه الرياح كيفما شاءت السفُن في حلب مناقضةً بيت المتنبي الشهير، مؤكدة: “تجري الرياح بما قد تشتهي السفُن”، وتمضي بين أبواب حلب وحجارتها ومعالمها الأثرية والتاريخية والمعاصرة، وستظلّ تمضي الرياح متناغمة مع دقّات عقارب ساعة باب الفرج بعد الترميم والصيانة حيث اكتُـشفت آثار جديدة منها 12 قناة مائية وأدراج وأحجار تعود لحقب زمنية مختلفة لأكثر من 400 عام.

ورغم هذه الجهات الأربعة للساعات الأربعة الواقفة مثل عُقاب عظيم، إلاّ أنّ العابر يشعر بأنه يدور حول الساعة التي تثبت له أن الزمن عبارة عن دوائر مفتوحة لا تغلق أبوابها، تماماً، مثل أبواب حلب التي لا تُغلق إلاّ في وجه كل ظلامي وإرهابي وفاسد ومفسد، وحينها تصبح دائرة مغلقة أشبهَ ما تكون بدائرة “الأوروبورس”.

 

زخرفة تعشيقية ورموز عشتارية

وعن هذه الساعة المعتبرة من الآثار المحلية والعربية والعالمية والمسجلة في اليونسكو 1986، قال أحمد الغريب، مدير قلعة حلب: تعتبر الساعة من معالم التراث الإنساني العالمي، لأسباب مختلفة، منها انفراد تصميمها عن باقي النصُب والساعات في العالم، فهي تتألف من مدخل باتجاه الجنوب، كتب على قسمه السفلي بالخط الكوفي:”بسم الله الرحمن الرحيم، وجعلنا من الماء كل شيء حي”، وهذا يحيلنا إلى ذاكرة الساعة وكيف كانت منهلَ ماء للعامة، وتضم 3 أحواض من الجهات الغربية والشمالية والشرقية، ولهذه الأحواض شبكة تمديدات عبارة عن قساطل فخارية تمّ اكتشافها أثناء الترميم، تروى من مياه حيلان.. ولا بد من الوقت: “قل هي مواقيت للناس” كُتبت لتذكّرهم وتذكُرهم.

وتابع: تتألف الساعة من شرفة عليها زخارف هندسية قوامها النجمة السداسية وهي رمز شرقي سوري، ولهذا الأمر خصوصية كثقافة مع الآلهة عشتار، وهو رمز منتشر في العديد من مساجد وخانات حلب العائدة للعهد المملوكي، كما أن هناك زخرفة تعشيقية، إضافة للزوايا العلوية الأربعة للأعمدة البازلتية، وزخارف أخرى تشبه المقرنصات، بينما ذروة البرج فهي على شكل التاج الذي كان يضعه ملك ألمانيا غليوم الثاني، وللساعة من الأعلى 4 أقراص دائرية لمعرفة الميقات، وقطعة حديدية إشارية لمعرفة اتجاه الرياح، ولساعة باب الفرج حبال وكتلة حجرية أعدت لها بئر داخل الساعة لتشغيل ميكانيك الساعة.

واختتم الغريب: لقد بنيت على نفقة بلدية حلب وأهل حلب مناصفة، وتشمخ كعلامة ومَعْلم في موقعها الاستراتيجي المميز كمنطقة تأريخية وأثرية واقتصادية، ويحيط بها عدد من الجوامع والأبواب والمواقع الهامة، كما أنّ إعادة ترميمها تمّت بأيادي أهل حلب، ولا تزال، وستبقى، ترانيم دقاتها تداعب أسماع أهل حلب، وسيظل هذا البرج شامخاً وسط المدينة ليروي الذاكرة التأريخية لهذه المدينة مع دقاته النابضة بمستقبلها المضيء.