مجلة البعث الأسبوعية

الحريدية ونتنياهو.. علاقة قائمة على معادلة “السلطة مقابل المنافع”!!

“البعث الأسبوعية” ــ محمد العمري

كان لافتاً سلوك اليهود الحريديم في بلدة بني براك بالقدس المحتلة قبل أسابيع، بخروجهم بالآلاف في جنازة الحاخام سولوفيتشيك الذي توفي بفيروس كورونا، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة في الصحافة العبرية عامة، والليبرالية منها خاصة، وحملات استنكار سياسية وحزبية وصلت درجة الاتهام بـ “التمرد” على القانون والإجراءات الحكومية الخاصة بمواجهة جائحة كورونا، وحتى “التسبب في تفشي الفيروس وتحميل المستشفيات ووزارة الصحة أعباء تفوق طاقتها”.

كما انتقد هؤلاء عدم تدخل الشرطة ومن يقف خلفها لمنع المسيرة الجنائزية، وهو ما تفعله في أماكن أخرى لا تخص الحريديم، وفقاً للإجراءات الاحترازية الرسمية، ولاسيما أن توقيت الجنازة تزامن مع سريان تمديد ثالث للإغلاق لمواجهة كورونا، ما طرح تساؤلات عديدة: لماذا يفعل الحريديم ذلك ويقومون أيضاً بطرد الشرطة من أحيائهم بالقوة؟ ولماذا لا تجرؤ الشرطة على فض مسيراتهم؟ وما هي دوافع سلوكهم التمردي؟ ومن أين لهم هذه القوة السياسية؟ والأهم أين نتنياهو من كل هذا؟ وماعلاقتهم بالمشهد الانتخابي الرابع؟

للإجابة عن كل هذه الأسئلة، ينبغي أولاً أن نعرف أن الكتلة الحريدية استطاعت، على مدى العقود الأربعة الأخيرة، أن تتحول إلى محور مؤثر في موازين القوى السياسية لتشكيل الحكومات الإسرائيلية، وإلى نواة أساسية لتشكيل حكومات نتنياهو في مواجهة المعسكر الليبرالي العلماني، الذي يتمثل بحزب ميرتس (من شولميت آلوني حتى نيتسانهوروفيتس)، ويش عتيد (يئير لبيد)، ويسرائيل بيتينو (ليبرمان)، أي كانوا يمثلون بيضة القبان في رجحان كفة حكومات نتنياهو الائتلافية.

وعلى الرغم من أن الحريديم وفق غالبية الدراسات الإسرائيلية، لا يشكلون أكثر من 11% من المستوطنين اليهود داخل الكيان، فإن قوتهم السياسية تتجاوز ذلك بكثير، وهو حال التيارات الدينية الأخرى، حيث يبلغ عدد ممثليهم في الكنيست اليوم 15 عضواً من أصل 120، من أصل 105 أعضاء يهود؛ وتتوقع مراكز الاستطلاع أن تزداد قوتهم في الانتخابات القادمة. وتبلغ نسبة التيار الديني الصهيوني “أصحاب القبعات المحوكة والملونة”، أو من يعرفون بالتيار الديني القومي، أقل من 12%، أما الباقي فهم من الصهاينة التقليديين أو المحافظين، الذين يلتزمون ببعض التعاليم الدينية، وليس كلها.

وهناك أربعة عوامل أساسية تؤدي إلى حصول الأحزاب الحريدية على أكثر من حصتها في المجتمع الصهيوني، وهي سمة تعتبر سر قوتهم وتناميها، حسب ما يسمى معهد “إسرائيل” للديموقراطية:

– حشد بل و”تجنيد” الحريديم للتصويت لأحزابهم، وبنسبة عالية مقارنة بالنسبة العامة، ومحافظة أتباع الطائفة الذين خرجوا من أحيائهم وانفتحوا على الحياة العامة على الالتزام بالتصويت لأحزابهم.

– توجه حزب “شاس” أكثر من “يهدوتهتوراة” إلى فئات شعبية شرقية فقيرة غير حريدية للتصويت للحزب، مقابل خدمات تعليم وخدمات أخرى ذات طابع اقتصادي – اجتماعي.

– الواقع الديموغرافي الناجم عن زيادة معدلات الزواج المبكر عند الحريديم، والذي يترتب عليه تزايد سكاني مطرد، إذ يبلغ معدل ولادة المرأة الحريدية الواحدة 7 أطفال، وهي من أعلى النسب في العالم.

والجدير بالملاحظة أن الحريديم يعملون على الاحتفاظ بوزارة الداخلية ومحاكم شؤون العائلة لفرض شرائعهم الدينية المتزمتة، مثل منع السفر والعمل أيام السبت، وقوانين شؤون العائلة اليهودية على اختلافها، وتعريف اليهودي، وواجب الخدمة العسكرية.

كل هذه المواضيع وغيرها تشكل محاور صراع محتدم بين الأحزاب الحريدية والعلمانية عند تشكيل كل حكومة، ويجد الحريديم دائماً أن التحالف مع نتنياهو هو أفضل الحالات التي تمكنهم من الاحتفاظ بـ “خصوصيتهم”، وأفضل الحكومات للحصول على الميزانيات المطلوبة لمدارسهم المستقلة وكلياتهم الدينية؛ كما يجد نتنياهو أن الحريديم أفضل حلفائه، لأنه يعرف حاجاتهم، وهو مستعد لتلبيتها مقابل تسامحهم معه في كل ما يفعله في المجالات العسكرية والاستيطانية والسياسية والاقتصادية، فحين يحتاجون إلى تأمين السكن للوافدين لا يترددون في الانتقال إلى المستوطنات في الضفة الغربية، أو أي مكان آخر، شرط أن يحافظوا على عزلتهم في مستوطناتهم، أو أحيائهم، وهنا تكمن قوتهم السياسية في ظل حكومات نتنياهو.

إذا هي علاقة منفعية متبادلة: المصالح مقابل السلطة، ومن هنا نفهم استعداد الحريديم للسير بالآلاف في جنازة راف الذي توفي متأثرا بفيروس كورونا دون أن يأبهوا بأي قانون أو التزام، فطاعتهم مطلقة لرؤسائهم الروحيين. وقد علق أحدهم على انتقادات الصحافة العلمانية لخروجهم في جنازة الراف رغم مخاطر كورونا، باقتباس مقولة للحاخام ميلوبافتش: “لتعلم جميع الأمم أن اليهودي يخضع للملوك بجسده فقط، ولا يخضع بروحه، لذلك علينا أن نعلن على الملأ أن كل ما يتعلق بتعاليم التوراة لا يستطيع أحد أن يأخذه منا”، وهو ما يستثمره نتنياهو المستعد للتحالف مع الشيطان لكي يبقى في السلطة.

ولكن هذا السلوك ينطوي على الكثير من الدلالات والمعاني، أبرزها تصدع واهتراء الوضع الاجتماعي للكيان الإسرائيلي، وهو ما عبر عنه ميشكا بن دافيد، أحد قادة جهاز الموساد السابقين، في مقال بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، والذي حذر من تزايد نفوذ التيارات الدينية اليمنية المتطرفة التي أصبحت تشكل “خطراً وجودياً” – على حد تعبيره – على دولة الاحتلال، في ظل رفض هذه التيارات المستمر المساهمة بالاقتصاد أو الخدمة العسكرية، وممارستها تقاليدها دون أي التزام بالقوانين، وهو ما يرفع وتيرة الخلاف بين الأغلبية العلمانية والأقلية الأرثوذكسية الدينية المتطرفة داخل الكيان، لاسيما أولئك الذين لا يخدمون في صفوف الجيش الإسرائيلي، وليسوا مندمجين في سوق العمل الإسرائيلي، رغم أنهم يعلنون أنفسهم “يهودا صهاينة”.

ويمكن استنباط المزيد من تخوفات بن دافيد الذي أصدر مؤلفات تتحدث عن نهاية “إسرائيل”، ومن أبرزها ما تشهده الغالبية العلمانية من تراجع في مواجهة التقدم الديموغرافي للحريديم، وأثر ذلك على “هوية” الكيان نتيجة الدعم غير المحدود للمدارس التعليمية الدينية. فهذه المدارس تشهد إعداد أجيال متأثرة بالتيار الديني، ما يخلق تخوفاً آخر من في تأثيرها مستقبلاً على الحياة السياسية، حيث يتوقع في حال استمرار الوضع الراهن أن تزيد القوة التصويتية لليهود المتدينين ثلاثين مرة على القوة التصويتية لنظرائهم العلمانيين، لأنه مقابل كل ناخب لأحزاب اليسار واليمين الصهيوني سيكون هناك ثلاثون ناخباً للأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة؛ وخلال فترة تزيد قليلاً عن الجيل الواحد سيكون بإمكان هؤلاء المتدينين تعيين نصف نواب الكنيست، ولن تكون هناك إمكانية إلا لتشكيل حكومات دينية بحتة ستدفع الأحزاب الأخرى نحو المزيد من التدين.

وأكد المسؤول الأمني الإسرائيلي أن “التركيبة السكانية الإسرائيلية اليوم تطرح تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت إسرائيل ستبقى بعد جيلين، لأن نصف أطفالها يتلقون تعليماً على نمط العالم الثالث، والبيانات الديموغرافية الموجودة اليوم تتحدث عن ضرورة إجراء تغيير جذري، وإلا ستجد إسرائيل صعوبة في الحفاظ على اقتصاد العالم الأول، وهو شرط ضروري لوجود جيش من العالم الأول، الذي بدونه يستحيل الوجود في أخطر منطقة في العالم”. ولا يستبعد بن دافيد أنه في حال حصول صدام بين العلمانيين والمتطرفين، فمن المحتمل “أن تعلن مناطق التيارات الدينية مناطق حكم ذاتي تمارس طقوسها وشعائرها واستيطانها بشكل مستقل، وستحصل على دعم وتمويل كبير جداً، وهو ما ينبئ باحتمال انقسام الكيان وانفجاره من الداخل”.