مجلة البعث الأسبوعية

الدكتور نور الدين منى وزير الزراعة الأسبق لـ “البعث الأسبوعية”: زراعتنا لا تزال بمنأى عن الحداثة رغم تسجيلها معدلات إنتاجية عالية  

“البعث الأسبوعية” ــ قسيم دحدل

حين يقول القائد الخالد حافظ الأسد موجهاً أن “خذوا المحصول من الفلاح ولو كان تراباً”، ويوم يؤكد السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته الأخيرة أمام مجلس الشعب: “القطاع الأهم هو الزراعة فهو الأقدر على دعم دورة الاقتصاد بحكم دوره في مجتمعنا واقتصادنا منذ الأزل، لكن دوره تأثر سلباً بميل الكثيرين لاقتصاد الخدمات الذي نما على حساب الاقتصاد الزراعي..”، تتجلى حقيقة مهمة وهي أن الرغبة والإرادة السياسية لمؤسسي سورية الحديثة والمستقبل أدركت وتدرك أن في جعل “الزراعة أولاً” استراتيجية تُبنى عليها بقية الاستراتيجيات السيادية التي تمكن سورية من أسباب قوتها وصمودها ومنعتها، أمام ما يخطط ويحاك لإحداث انقلابات اقتصادية وغير اقتصادية كبرى على صعيد المنطقة والعالم.

لكن للأسف، لم يستطع من يتوجب عليهم ذلك في السلطة التنفيذية تجسيد تلك الرغبة والإرادة بالشكل والمضمون الأمثلين على أرض الواقع، رغم ما كان من إنجازات مشهودة على صعيد استصلاح الأراضي ومد الأقنية المائية وبناء السدود.. إلخ، وكم الدعم الذي تم تقديمه للقطاع الزراعي، والذي ازداد طرداً – على خلاف المتوقع – خلال الحرب الإرهابية المدمرة بشكل ممنهج لأمننا الغذائي التنموي، وبالتالي المعيشي والمجتمعي والاقتصادي.

والاستراتيجية كتاب صامت يحتاج لآليات لجعله ناطقاً.. هكذا هو واقع الزراعة السورية، برأي الدكتور نور الدين منى، الوزير الأسبق لوزارة الزراعة، والممثل السابق لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، ورئيس قسم الاقتصاد الزراعي بجامعة حلب، الذي شدد على أنه “بالرغم من تسجيل الزراعة السورية معدلات عالية من الإنتاجية أو الإنتاج ما قبل الحرب على سورية وحتى الآن، لكنها بقيت ذات تذبذبات ما بين الارتفاعات والانخفاضات، ما يُؤشر إلى أن زراعتنا بقيت تقليدية لم تصل بعد إلى مرحلة الزراعة الحديثة، وبمعنى علمي أدق: لم يطل الزراعة التغير التكنولوجي المطلوب لترجمة البعد الاستراتيجي لرؤية وإرادة قيادتنا الحكيمة..”!!

 

صحيح ولكن..!؟

يوضح الدكتور منى: صحيح أننا أدخلنا طرق الري بالتنقيط، وأدخلنا البيوت البلاستيكية، وطرق المكافحة، والتسميد.. إلخ، لكنها كانت نجاحات فردية غير مستدامة؛ بمعنى أن هذه النجاحات الفردية لم توضع ضمن برامج، فمثلاً خلال فترة القطاف أو الحصاد، وفي بعض المحاصيل، قد يكون هناك إغراق وفائض، ولكن فيما بعد، لا يتم تطوير عمليات الاستلام ولا متابعة المراحل الأخرى، مثالها ضعف التسويق، سواء كان داخلياً أم خارجياً، وضعف العلاقة بين الوزارات صاحبة العلاقة في هذا الشأن. وصحيح أنه في بعض السنوات حققنا اكتفاء ذاتياً وزادت الكميات، لكن هذا يعتبر علمياً عبارة عن مفهوم أفضل الأسوأ، مقارنة بمفهوم أفضل الأفضل، سواء كان الموسم الزراعي ممتازاً أو جيداً أو ضعيفاً..! والملاحظ – حسب د. منى – أنه عندما يكون الموسم الإنتاجي سيئاً نزيده سوءاً، بعمليات التدخل الارتجالية غير المدروسة شبه الرسمية، وإذا كان وفيراً لا نحسن استغلال هذه الوفرة، سواء على صعيد الفلاح أم إدارة ما بعد الحصاد، أم حتى التسويق بشكل عام.

 

البعد البيولوجي

والزراعة علمياً – وفقاً للوزير منى – لها بعد بيولوجي وأحزمة بيئية، لذلك فالمطلوب فهم جميع مراحل هذا البعد البيولوجي الزمني وإدارته بالشكل الأمثل، والتنسيق الكامل بين جميع الجهات صاحبة العلاقة، وعندما يقال إن “الزراعة عمل وأمل”، فهذا يميزها عن الإنتاج الصناعي وغير الصناعي: معنى العمل واضح للجميع، بدءاً من الحراثة والبذر والري – عند وجوده – والقطاف أو الحصاد .. إلخ، أما الأمل فيعني أن الزراعة تخضع لعناصر ما يعرف علمياً بالمخاطرة وعدم التأكدية.

لكن الوزير الأسبق يقول “إن كثيراً من القيمين تنقصهم الخبرة في إدارة الزراعة تحت هذه العوامل”، مشيراً إلى أن هناك غياباً للاستراتيجيات الواجب تطبيقها لإدارة الزراعة تحت ظروف المخاطرة وعدم التأكدية؛ ومن أمثلة ذلك عندما نقول: لا تعد “الفول إلا مكيول”، فإزاء القمح – مثلاً – من تشرين الثاني أو كانون أول، وحتى حزيران أو تموز وقت الحصاد، يتم إتباع كلَّ شيء بشكل أمثل ولكن في آخر مرحلة قد يتعرض المحصول إما لحرائق أو لظواهر طبيعية (بَرَد أو أمطار غزيرة..)، فيكون كل الجهد المبذول قد أصبح هباءً منثوراً، وهنا تتحمل جميع الجهات المسؤوليات.

 

ضعيف وغير مدروس

ويلفت الوزير إلى أن التنسيق الشامل والكامل والتشاركي في الزراعة السورية ضعيف جداً، أو غير مدروس، منوها إلى أن الزراعة هي علم وفن واقتصاد ومال وتأمين مستلزمات وقوانين وتشريعات وتدخُّل حكومي ودعم للمزارع وتسويق خارجي؛ واستناداً لذلك فإن على الوزارات صاحبة العلاقة القيام بدورها على أكمل وجه (من المعلوم أن الوزارات صاحبة العلاقة في العملية الزراعية هي: وزارات الزراعة والصناعة والتجارة الداخلية والتعليم العالي والري والموارد المائية..)، فوزارة الزراعة يناط بها دور الإشراف وتقديم خدمات العملية الإنتاجية، إذ ومنذ بدء سلسلة الإنتاج تبدأ مسؤولية الزراعة في الإشراف من البذر والحراثة حتى الحصاد، ثم هناك وزارة أخرى تقوم بمهام التسويق والتخزين والتصدير. لذلك حتى نقول “إن العملية الزراعية في سورية ناجحة” يجب أن يُسَجَّلَ النجاح بشكل تنسيقي كامل ما بين الإنتاج الزراعي في الحقل والتجاري التسويقي، حتى يصل لطاولة المستهلك، وهذا يسمى علمياً “من باب المزرعة حتى طاولة المواطن”.

وعليه، عندما نسمع عن إخفاقات في عمليات التسويق أو الإنتاج يكون الأكثر تضرراً هو المنتج الحقيقي، أي الفلاح أو المزارع؛ وهنا تبدأ المنظومة الروتينية بين الوزارات في تبادل الاتهامات والبحث عن ذرائع، وأن “المسؤولية ليست عندنا”؛ وفي عمليات التسويق يتم ممارسة الفساد عندما تُرفَض شحنات من الإنتاج لأسباب معينة، وتباع على أنها أو منتجات فاسدة أو غير صالحة، أو غير مطابقة للمواصفات.. إلخ.

 

لا نتقن “الدولي”..!

وهذه مشكلة أخرى، فالتعاون الدولي يعني فهم ذهنية وآليات عمل المنظمات والهيئات الدولية العاملة في القطاع الزراعي، وليس فقط المنظمات، وإنما أيضاً الجهات المانحة أو المراكز الدولية، بما يخص العمل على تحقيق مشروعات لسورية، أو جلب تمويل لتلك المشروعات، والسبب بكل بساطة هو ضعف في الإدارة أو طريقة التعامل.. مثلاً، مدير التعاون الدولي لا يجيد اللغة الانكليزية، كذلك في الوزارات ذات العلاقة بالقطاع الزراعي، تكون الموارد والإمكانات موجودة لكنها لا توضع وتوظف في هذا الموقع، وبالتالي يكون المسؤول الأكبر بمنصب وزير أو معاون وزير أو مدير عام أو مدير تعاون دولي تحت رحمة المترجم الذي يطلع على أسرار التعامل ما يجعل المسؤول وكأنه تابع له، فقد تكون هناك أعمال أو محادثات سرية يطلع عليها المترجم، وهذا لا يجوز، وبالتالي لا يتم تحقيق المنفعة أو الفائدة العظمى الممكنة من خلال التعاون الدولي.

كما أن الكثير من الدورات التدريبية، أو الزيارات الخارجية، كانت تقوم على ولاءات وغايات شخصية لمسؤول آخر، وللأسف يمكن القول أن هذه الآلية أو الذهنية لا تزال مستمرة من خلال التطبيق والممارسات، وهذا جزء من معوقات التطور في القطاع الزراعي.

 

لا يوجد

بالنسبة للعمل أو الفكر المؤسساتي، من المعلوم أن أي وزارة تنتهجهما من خلال فريق ينفذ استراتيجية معينة لإنجاح المؤسسة، بغض النظر عمَّن يشغل هذا المنصب أو ذاك، وبغض النظر عن شخصية المسؤول، لكن ما يحدث هو أنه مع كل إدارة حتى الهيكلية تتغير وحتى المدراء يتغيرون، وتقريباً يحدث تغيير شامل، وتبدأ مرحلة جديدة، قد لا تطول أيضاً، ثم يبدأ التجريب، أي لا يوجد نهج مؤسساتي مستمر، وإنما مرحلة تجريبية إدارية. وبشكل عام، الخبرات السابقة وحتى المتقاعدون، من إداريين وغيرهم، لا تتم الاستفادة من خبراتهم المتراكمة بالشكل الأمثل.

وأضاف نور الدين: نسمع عن بعض التعيينات كمستشارين أو خدمات استشارية؛ ولكنها محدودة، ويغلب عليها طابع الولاءات، أو العلاقات الشخصية، أو “الواسطات”.

 

معوقات الانسجام

الوزير الأسبق وضَّح أن الزراعة هي عبارة عن ماء وإنسان ورأسمال وطبيعة وعمل حكومي، وانسجام وتفاعل هذه العناصر مع الأرض، ومع بقية عوامل الإنتاج مع الإنسان (الجانب الإداري، والعضلي: عمل الفلاح )؛ وعليه بقدر ما يكون الانسجام يكون الإنتاج عالياً، ويكون الأمن الغذائي في أبهى حالاته؛ ولكن للأسف، كل عنصر من هذه العناصر له مشكلاته وله معوقاته، سواء أكان ذلك على مستوى الكفاءة بالنسبة للعامل البشري، أو عدم اتخاذ القرار السليم. وسواء بالنسبة للأرض وضرورة تأمين متطلبات إدارتها وصيانتها والحفاظ عليها وعلى إنتاجيتها، وكذلك الحال بالنسبة للمياه وإدارتها بالشكل الأمثل للموارد (مثلاً، تصدر قرارات بمنع الحفر العشوائي لكن الحفر للأسف موجود، والقانون موجود لكنه غير مطبق..!!)، وهذا يؤدي لخسارات جمّة بالنسبة للفلاح، إذ يمكن أن يحفر شخص ما في أرضه، وبشكل مخالف، بئراً أو اثنين أو ثلاثة، ويتكبد تكاليف كبيرة، مقارنة بما لو كان هناك تنظيم بالموافقة على حفر بئر سطحي أو محدد، مع خرائط للمياه الجوفية، أو الإعلان بأنه غير ممكن.. وهكذا يحصل استنزاف للموارد، ويؤثر على العمل الزراعي.

 

غياب التخطيط التسويقي – الإنتاجي

يبين الدكتور نور الدين أن التسويق علم وفن وإدارة بحد ذاته، وهو غير مستقل عن علم الإنتاج، إذ يوجد تداخل بين علم الإنتاج الزراعي وعلم التسويق الزراعي، وخاصة عندما نتحدث عن التسويق الخارجي، لأن الذوق والمعايير والمواصفات وقواعد التسويق في السوق الداخلي تختلف عنها في السوق الخارجي؛ ففي التسويق الخارجي – مثلاً – هناك متطلبات (الصنف – النوع – المحتوى – التدريج – الحجم – التماثل بين الثمار – التوضيب – تقديمه للمستهلك..)، بينما وبكل بساطة – مثلاً – كثير من إنتاج الفاكهة في سورية (بساتين الفستق الحلبي – الزيتون – اللوز) قد يكون فيه الإنتاج غير متجانس، نتيجة لتنوع الأصناف في الحقل نفسه؛ وكذلك في الإنتاج الحيواني للبيض، ففي الاستهلاك الداخلي، يدفع المستهلك السعر نفسه بغض النظر عن وزن أو حجم البيضة، وقد يكون السعر للون أو حجم الثمرة وليس نوعيتها (“كلّو تفاح” – “كلّو جبن” – “كلّو بيض”)، مؤكداً أنه لو تمَّ تجنب ذلك، لكن العائد للفلاح أفضل، لكن هناك غياباً للجهات الرسمية أو الحكومية الفاعلة والمؤثرة في ذلك، وكذلك غياب للجمعيات الخاصة التسويقية ذات الصلاحيات والمسجَّلة في الدولة، والتي تقوم هي بتسويق المحاصيل (كما في بعض الدول)، بينما في سورية نجد خسارات للفلاح (سعر البيع لا يغطي تكلفة الإنتاج)، وهذا غريب، ويعكس غياب التخطيط التسويقي – الإنتاجي. وبالنتيجة، الخسارة يدفعها المزارع بشكل أو بآخر، في حين المسؤول الحكومي لا يشعر بمثل هذه الانتكاسات التي يتعرَّض لها المزارع في الساحل أو الغاب أو الجزيرة أو الجنوب.

 

مفتاح الاستقرار الاقتصادي

وليس أخيراً، يختم الوزير منى بالتأكيد على أن أكثر من 95% من الزراعة السورية هي قطاع خاص، والفلاح السوري لا تنقصه الخبرة الزراعية، إنما الدعم من حيث الكمية وحمايته من تذبذبات الأسعار، وهذا علمياً يسمى التدخل الحكومي في السياسة الزراعية أو القطاع الزراعي؛ وللتدخل مبررات قوية يجب أن تتحملها الجهات المعنية بكل مسؤولية، لأن الإنتاج الزراعي خاصة هو مصدر للأمن الغذائي، وهو ذو بعد سياسي: خارجي وداخلي، وهو مصدر للاستقرار الاقتصادي.