مجلة البعث الأسبوعية

“تاريخ دمشق المنسي”.. مراحل مختلفة من تاريخ المدينة المعاصر

“البعث الأسبوعية” ــ فيصل خرتش

“تاريخ دمشق المنسي” لمؤلفه سامي مبيّض، هو مجموعة من الدراسات التاريخية، ويتناول مراحل مختلفة ومنسيّة من تاريخ مدينة دمشق المعاصر.

القصة الأولى عنوانها “الأمير سعيد الجزائري”، وتدور أحداثها في أيلول عام 1918، وتحكي قصة الأسبوع الفاصل بين خروج العثمانيين ودخول الجيوش العربية والإنكليزية إلى مدينة دمشق في نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد شهد ذلك الأسبوع أحداثاً جساماً تمثلت بانتشار النهب والسرقة في أرجاء دمشق، فما كان من أهالي المدينة إلا أن نهضوا، بمساعدة الأمير سعيد الجزائري، ليمسكوا بزمام الأمور، ويعيدوا الحياة والخدمات والأمن إلى مدينتهم، دون انتظار أو مساعدة من أحد. بايع الدمشقيون الأمير سعيد حاكماً عليهم، وبذلك عطلوا كل الوعود المقطوعة من الإنكليز للشريف حسين بن علي، أمير مكة وقائد الثورة العربية الكبرى، بتعيين أحد أبنائه حاكماً على دمشق بعد جلاء الجيوش العثمانية؛ ولهذا السبب وحده حكم على هذه التجربة بالإعدام في كتب التاريخ الأجنبية، وشطبت من التاريخ السوري المعاصر.

بايع الدمشقيون فيصل بن الحسين ملكاً عليهم، في الثامن من آذار عام 1920، بعد تشكيل الحكومة العربية في دمشق بصلاحيات كاملة، مع مجلس وزراء ومجلس نوّاب جرت له انتخابات عامّة سنة 1919، وسقط حكم فيصل بعد أشهر قليلة، ونفي إلى خارج البلاد، بعد معركة ميسلون التي مهدت لدخول الفرنسيين إلى دمشق بتسعة آلاف عسكري، وقاموا بحلّ الجيش السوري، وهرب فيصل إلى عواصم أوروبا، مطالباً الحكام بتعويضه بعرض عربي، فقلّده البريطانيون عرش العراق عام 1921، وتوفي في أحد مستشفيات سويسرا، عام 1933، ولم يعد لورانس إلى دمشق، فقد توفي في بريطانيا إثر حادث دراجة نارية عام 1935.

أمّا الأمير عبد القادر، فقد أردي قتيلاً بأمر من رضا باشا الركابي، والأمير سعيد الجزائري، فقد عمرّ طويلاً حتى عام 1970، وكتب له أن يصبح شاهداً على ستة وعشرين عاماً من الاحتلال الفرنسي وعلى جميع الانقلابات، منذ عام 1949، حتى قيام حكم البعث. ولا تزال قصة الأمير سعيد الجزائري منقوصة، لأنه ببساطة لم يقترب منها أحد سوى لورانس العرب بمذاكراته الإشكالية، وإلى حين تسليط الضوء بشكل علمي ، تبقى رواية الأمير سعيد نفسه لأحداث عام 1928 هي الأدق لما حدث في دمشق.

القصة الثانية هي “التجربة الفيدرالية في سورية” التي بدأت في حزيران 1922، وانتهت بعد ثمانية عشر شهراً فقط، عندما أسقطها السوريون أنفسهم، وهي قصة ما عُرف يومها بــ “الاتحاد السوري الفيدرالي”.. تلك التجربة كانت محاولة فرنسية لتجزئة المجزّأ من سورية الكبرى. وفرض نظام حكم غريب عن بلاد الشام وعادات أهلها وتاريخهم، ولكن الاتحاد الفيدرالي فشل فشلاً ذريعاً، لأنه لم يأخذ في عين الاعتبار مطالب السوريين بالوحدة، وفرض عليهم بالإكراه من ضباط فرنسيين لا يعرفون هذه البلاد ولم يستشيروا أحداً من أبنائها أو أعيانها، إنْ عن طريق انتخابات أو استفتاء، فأسقطه أبناء دمشق وحلب والساحل السوري بالممارسة.

القصة الثالثة هي تأسيس كلية الطب في دمشق عام 1903، والتي كانت نواة بناء الجامعة السورية عام 1923. وتدور أحداث هذه “المنسيّة” من بداية القرن العشرين وحتى نهاية رئاسة الدكتور رضا سعيد في عام 1916، وهي تقص فصلاً كاملاً من تاريخ دمشق ودور المدينة الريادي بنشر العلم والمعرفة في المشرق العربي؛ فصناع الأوطان هم ليسوا فقط من السياسيين والثوار، بل أيضاً الشعراء والكتاب والأساتذة والأطباء، وجميع هؤلاء أنشؤوا الجامعة السورية وطوروها منذ ولادتها.. أسس الدمشقيون لجامعة عريقة لم تعرف المنطقة مثيلاً لها سوى الجامعة الأمريكية في بيروت، ولأن العاصمة دمشق هي مدينة نور وعلم، تصدر علمها للآخرين قبل أن تنهل من علومهم، وتؤسس لجيل كامل من الثوار الرافضين مشاريع العرب في بلادهم.

القصة الرابعة هي قصة “جمهورية الرئيس محمّد علي العابد”، وتجربة الرئيس العابد في الحكم كانت الأطول مقارنة بتجربة نظرائه أيام الفرنسيين، وكانت فريدة بأحداثها الجسيمة، ويجب أن تدرس، أولاً لأن العابد كان الرئيس الأول للبلاد، وثانياً لأنها همشت في كتب التاريخ. كان الرئيس العابد ذا خلق رفيع وطموح عالٍ، وضع الدعامات الأولى لمؤسسة حكم كانت ضعيفة وصغيرة في عهده.

القاسم المشترك في هذه القصص هي الخالدة دمشق، مسرح الأحداث ومنارة الشرق، وتتعرّض هذه المدينة العظيمة حالياً لحرب ضروس دمّرت الماضي القريب وشوّهت الحاضر والمستقبل معاً، إلا أنها لم تستطع أن تلغي ذاكرة أهلها الطيبين، المحبين للحياة، والطامعين دوماً بغد أفضل. وستبقى دمشق شاهدة على التاريخ، وستروي ما حدث ذات يوم لها ولأبنائها لأجيال وأجيال، ووحدنا نحن نصنع التاريخ، ووحدها دمشق تكون الملهم والمعلم الأكبر والشاهد الحي على تاريخ البشرية.

وكتاب “تاريخ دمشق المنسي”، من تأليف سامي مروان مبيّض، وصدر عن دار الريّس، بيروت – لبنان، 2016.