الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حتى مطلع الفجر

د. نضال الصالح

كما يشبه نهراً صاخباً بالحياة كان فيض من الناس يتزاحم على باب القلعة، نهر يمتد من باب المقام إلى الساحة الممتدة أمام بابها، ثم بغتة كأن لا أحد سوى امرأة واحدة تلتفّ بنفسها ويداها تتسولان الدفء في أعماق معطف باذخ البياض تتدثر به، امرأة كنت رأيتها في غير حلم وفي غير هيئة، فارعة القدّ، ممتلئته قليلاً، ولا يبين من خلل غطاء رأسها سوى ملامح وجه، ثم المرأة نفسها وهي تطوي يمناها تحت معطفها لكأنها تخفي أذى أصابها عن عينيّ، أو لكأنها لم تشأ أن يرى أحد ما تعرضت له من أذى كما حدث لحلب نفسها، فتبقى الصورة في مخيلة رائيها كما لو أنها المطلق وقد تجلّى على هيئتين: القلعة وهي.

أهي يمامة حقاً، يمامة كما اخترتُ أن أسميها لأنها تشبه اليمام كما كنت رأيت في غير حلم وغير هيئة، أم امرأة أخرى خُيّل إليّ أنها هي وقد سكنتني روحها فلم أعد أميز الحقيقة من الخيال، أو الواقع من الحلم، ولذلك لم يكن بد من أن أقترب منها أكثر، فأتبيّن ملامح وجهها، أمعن عينيّ القلب فيها. عينا القلب، بصيرته، لا العينان اللتان أرى بهما مفردات هذا العالم الذي لم يعد من معنى له وقد تكثّر الزيف على الزيف، وازدحم الإفكُ على الإفك، فما كانت حلب هي حلب التي أعرف، والتي نهشها الذئاب من غير حدب وصوب. ثمّ لم أكد أقترب، حتى رأيتها، يمامة نفسها التي أتوهم أو المرأة التي تشبهها، وهي تشرع ذراعيها على آخرهما لكأنها تعرفني منذ استواء صلصالها على هيئة أنثى، ثم تحيطني بهما، ثم تضع رأسها على كتفي، وتهمس في أذني: تأخرتَ كثيراً. فأردّد: وانتظرتكِ طويلاً. ثم وهي تمعن في إحاطتي بذراعيها أكثر حتى أكاد أصير منها، وأحسّ بلهاث أنفاسها وهي تنفذ إلى جسدي وحرير خديها وهو يتوحّد بي، تتابع قائلة بينما تومئ إلى القلعة أمامنا: أترى كم أشبهها؟ فقلت: أترين كم تشبهك؟.

امرأة على هيئة القلعة، أم القلعة على هيئة امرأة، أم هما أنا وقد انبعثتُ من ضلع المرأة فصرنا القلعة؟ كنت أتساءل بينما يمامة، أو المرأة التي ظننت أنها يمامة، تضاحك روحي المكلومة بألف جرح وجرح منذ عشر خلت من السنين، أو تكاد، ثمّ تمسح على وجهي بكفين أرقّ ملمساً من ريش يمام، وما تكاد أصابعها تنفذ إلى ما لا يُدرك بالحواس، حتى تبزغ في جسدي شموس لم أكن عرفتُ من قبل. ولم يكن حلماً، رأيتني وأنا أرفع يدي إلى أعلى، وأحيط بهما وجه المرأة، وبينما أصابعي تمشط شعرها كنت أنهلُ من كوثر المعنى في كتاب الحياة، وأنا أرتّل بصوت لا يسمعه سوانا: “وأمّا بنعمة ربّك فحدّث”، وكان ثمة أسراب من اليمام تحطّ على أسوار القلعة وهي تهدل فيما يشبه الترتيل: “سلامٌ هي حتى مطلع الفجر”.