مجلة البعث الأسبوعية

منجم ألماس.. أرض إنبات فناني البراءة

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

نضوج النارنج

“في الشام، ينضج النارنج والياسمين والفنانون على الدوام، ودون انقطاع”.. الجملة مأخوذة من الكتاب الممتع “فنانون” للكاتب الروسي قسطنطين باستوفسكي، في معرض حديثه عن الفنان المغمور أوريست كيبرينسكي الذي نعاه – آنذاك – الكاتب الروسي نيستور كوكولنيك بأسى بالغ، فكتب بعض السطور الحزينة: “إن الموت الذي سلب من روسيا بشكل غير متوقع واحداً من ألمع الرسامين، وهو أوريست كبرينسكي، مرّ في المطبوعات الدورية كالظل الذي ألقته سحابة عابرة تسوقها ريح عاتية!! لماذا لم تصدر حتى التأبينات الصحفية الاعتيادية على القبر الشهير؟ لماذا لم تقدم آية الإجلال الأخيرة للفنان؟ لماذا؟”.

ويتوقف السؤال بلا أجوبة مقنعة، وتطيش في مدى الأزمان حالات متعددة تشبه هذا المثال، في حياة فناني وطننا، والأهم في سياقنا الآن هم فنانو لوحات قصص الأطفال.

 

إلياس الحموي فارس الريشة الخجول

واحد من أهم فناني اللوحات الطفولية في وطننا؛ رسم وأثرى ذائقتنا الطفلية بآلاف اللوحات والموتيفات التوضيحية في مجلتنا الأميز “أسامة”، وكان في وقت من الأوقات بطل المشهد الفني الموجه للطفل، فريداً لا يباريه ولا يدانيه أحد، رغم وجود الرعيل المؤسس والفنانين الكثر من حوله.. وإذا أردنا أن نسأل عن الفنان إلياس الحموي وعن مكانه الآن، فالجواب يأتينا على لسانه هو في آخر زيارة لمقر مجلة “أسامة”: “أنا منعزل في قريتي الصغيرة، وأقوم بإعطاء حصص درسية في إحدى الجامعات الخاصة”.. هناك آثر إلياس حموي، في منطقة الحواش بريف حمص، أن يمضي فترة استراحة المحارب، والمسافر عبر مسافات اللون والتعب الجميل في تزيين قصص الأطفال، بعيداً عن ضجيجنا، وعن كل ضجيج الأخبار التي تبعد الفنانين عن دائرة الضوء والتقدير لجهدهم السابق.

كذلك ممتاز البحرة، آثر في آخر أيامه أن يكتفي بساعات تأمل وعيش حياة هادئة، بعيداً عن الضجيج نفسه وزخم الأخبار التي لا تعطي فنه وتعبه الأول حقه.

 

أهذا قدر؟

أهذا قدر، أن تكون الشام الولّادة لهذا الكم المذهل من الياسمين والفنانين المشتغلين في حقل الطفولة لا تستطيع الحفاظ عليهم، إعلاماً وتكريماً، في أيامهم الأخيرة ] رحم الله من رحل منهم وأطال بعمر الأحياء [؟ وإلى متى سيتم التعاطي مع فنان قصص الأطفال على أنه ظل عابر وسط ريح عاتية، مجرد رسام هزلي يتقن إمتاع الصغار ثم يسدل الستار ليعود لمعاناته وقت النزول عن خشبة مسرحه العظيم؟

إلى متى سيتم معاملة نص الأطفال ولوحة الأطفال على أنها ثقافة من الدرجة العاشرة، مجرد صنف تم إقحامه عنوة، وعلى مضض، من المشتغلين في حقل الثقافة، بلا أدنى رغبة منهم في إدراجه؟

منذ أكثر من 60 عاماً وبولونيا تحتفل بمعرض كتاب الطفل فيها، وبكتّاب ورسامي العالم أجمع، ما يشكل لها رافداً ثقافياً وتجارياً واقتصادياً عالي المستوى.. أجل، فالفن والأدب صناعة، صناعة لعقول الناشئة، وصناعة بمعناها المتعلق باستجلاب المال وتدوير عجلة الإنتاج.

ولك أن تعدد الكثير من النماذج حول العالم للاحتفاء بالفنانين المختصين لكل ثقافة، ولدى كل شعب من شعوب الأرض.

 

تان تان بطل قومي في بلجيكا

تشرئب أعناق فناني الرسوم الطفلية في أنحاء العالم نحو تكريم فنان هنا، أو كتاب مصور هناك، فلطالما كان حلم الفنان هو التقدير والامتنان من أهل وطنه لما يقدمه.

شكل التكريم المتعاقب للفنان هيرجيه في بلجيكا، ولشخصيته الأشهر تان تان، العديد من حالات الفخر حول العالم، بأن فن الطفولة وأدبها يستطيع أن يخطو خطوات نحو أن يكون فناً خاصاً وقيمة مضافة بحد ذاتها لمن يمتهنه.

 

محاولات متواضعة

على صغر مساحة المكان وقلة العدد، قام فريق “أسامة” في السنوات الأخيرة بالكثير من الخطوات الجليلة والحميمية ذات الأثر الإيجابي والمهم في حياة الفنانين المكرمين، وفي حياة الفن الطفولي في سورية، فكنت برفقة رئيس التحرير قحطان بيرقدار وباقي أعضاء الفريق، وبأقل ما يمكن من تكاليف نطبع بطاقات تكريم، ونصنع من غرفة “أسامة” المتواضعة معرضاً صغيراً لأعمال الفنان المحتفى به، وننشر ملفاً خاصاً عبر صفحات المجلة لأهم انجازاته الفنية (ممتاز البحرة “قبيل رحيله” – لجينة الأصيل – إلياس الحموي – أمجد الغازي – غسان السباعي – طه الخالدي – قحطان الطلاع.. والقائمة تطول).

الضرورة تكمن في تطوير هذه المبادرات لتكون خطة وطنية واحتفال دوري فصلي ليتم استيعاب أولاد رحم العطاء المنبثقين من أرض الضوء والياسمين.

 

مقبرة الأفيال

يقال أن هناك سراً علمياً، لم يتم الكشف عن خفاياه حتى الآن، بأن الفيلة التي يتقدم بها السن تقوم برحلة أخيرة إلى مكان ظليل بعيد عن أعين بقية الخلائق.. هناك يحلو لها أن تموت واقفة، وتسلم أمانة الروح والذكريات وتاريخها الحافل بالمغامرات، دون أن تصدر عنها أية صرخة أو تنهيدة.. تموت بشموخ واقفة بدمعتين صغيرتين في العينين، وتخلّف لنا جوهرها النادر: العاج الثمين.. وفي هذه الحكاية عبرة.

شكراً للقامات الباسقة التي مرت وتمر بحياتنا كل يوم، ودعوة كي نستثمر وجودها فيما بيننا، وتحصيل العاج نؤجله لوقته المحدد.. هناك فسحة من وقت لنكرّمهم، ونقول “شكراً!!”، وعيوننا في عيونهم لنرصد لحظة الامتنان، وبأنهم لم يُتركوا في زوايا النسيان من ذاكرتنا الجمعية كشعب ينبض بالحضارة.

ففي الشام ينضج النارنج والياسمين والفنانون على الدوام، ودون انقطاع.