دراساتصحيفة البعث

أميركا مابين مغازلة إيران ومراضاة الكيان الصهيوني

محمد نادر العمري

قبل سنوات قليلة فقط لا يتجاوز عددها بعض أصابع اليد، ومع إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقوباته القصوى وغير المسبوقة على إيران، ارتفع منسوب الرهانات داخل الكيان الإسرائيلي، ولدى بعض الأنظمة العربية، على أن الجمهورية الإسلامية باتت في مأزق إستراتيجي يضعها أمام جملة من السيناريوهات المدمرة: إما سقوط للنظام بشكل متدحرج، أو خضوعه للمطالب الأميركية، أو انتفاضة داخلية توصل إلى أحد الخيارين السابقَين معاً، وأي تقييم آخر حول هذا الموضوع اعتُبر غير موضوعي، ويعبّر عن آمال أكثر منه عن وقائع.

اليوم الصورة تغيّرت عبر انقلاب المشهد بالنسبة لكيان العدو، بعدما بدأ يتلمّس فشل رهاناته وخياراته، في ظل حقيقتين متوازيتين: الأولى أن إيران تجاوزت الأسوأ على المستوى الاقتصادي، وهو ما أكده قائد الثورة السلامية السيد علي الخامنئي، إضافة لتقديرات دولية تحدثت عن أن إيران ستحقق نمواً إيجابياً في العام 2021، على الرغم من العقوبات الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا، بينما تتمثّل الحقيقة الثانية على المستوى الاستراتيجي، عندما حدّد قائد الثورة موقفاً صلباً عبر شروط حاسمة للعودة إلى الاتفاق النووي، وهي رفع العقوبات عملياً وليس كلامياً، وأن يتلمس الشعب الإيراني ذلك. فضلاً عن ذلك، يسود اعتقاد في الكيان الصهيوني بأن الوقائع والمعلومات تؤكد أن الإدارة الأميركية الجديدة تتبنى خيار العودة إلى الاتفاق، ولو بصيغة ما، لن تكون بالتأكيد بمستوى الآمال التي تطمح إليها حكومة الاحتلال الإسرائيلية، أي معايير التفوق والحفاظ على الأمن القومي “الإسرائيلي”، الذي بدأ يشهد تزايداً في المخاطر التي يواجهها الكيان اليوم على مستوى بيئته الإقليمية، ليتحوّل إلى مأزق إستراتيجي أكثر خطورة.

بمجرد إعلان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن استعدادها لقبول دعوة أوروبية للمشاركة في اجتماع تحضره إيران لبحث المسار الدبلوماسي بشأن ملفها النووي، بالتوازي مع سحبها الطلب الذي قدّمته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب للأمم المتحدة لإعادة فرض العقوبات الدولية عليها، إضافة إلى قرار تخفيف القيود على الدبلوماسيين الإيرانيين في نيويورك، شكلت أهم الوقائع التي استشعر الكيان الصهيوني الخطر من خلالها، ولاسيما أنها جاءت بعد ساعات قليلة من الاتصال الهاتفي الأول الذي حصل بين بايدن ورئيس حكومة الاحتلال وبعد توسّط السفير الإسرائيلي في واشنطن. وهذا يشير إلى أن بايدن لم يخبر نتنياهو بتوجهاته تجاه الملف النووي الإيراني، أو أن الأول أوعز للثاني بضرورة التخلي عن إرث سلوك ترامب في التعامل مع إيران بسبب أهداف أكثر أهمية على المستوى الجيوسياسي، ولكن مكتب نتنياهو كذب لأهداف انتخابية وتحدث عن إيجابية سادت الاتصال والتوصل لتوافق في الآراء.

على الرغم من كل ما سبق، يبدو أن هذه الخطوات الأميركية تأتي بالتنسيق الكامل مع دول الاتحاد الأوروبي المركزية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا)، كإشارة من إدارة بايدن للعودة إلى سياسة الدبلوماسية الجماعية مع الشركاء التقليديين في دول الاتحاد الأوروبي، بعد سنوات عجاف من العمل الأميركي الأحادي في ولاية ترامب، التي اتسمت بفتور العلاقة الأميركية مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ومؤسّسات الأمم المتحدة. ولكن هذا القرار الأميركي تجاه إيران يتضمن في طياته الكثير من التداعيات على سياسات الولايات المتحدة تحت قيادة بايدن تجاه “إسرائيل”، من أهمها:

أولاً: يعتبر القرار الأميركي نهاية سياسة الضغوط الأميركية القصوى على إيران، من خلال العقوبات الاقتصادية والعسكرية التي مارسها ترامب طوال فترة رئاسته، الأمر الذي كانت “إسرائيل”، وما زالت تعتبره أمراً ضرورياً وملحاً ضمن  أساسيات على ما تدّعيه بالحفاظ على تأمين أمنها القومي، إذ إن هذه التوجّه أو السياسة تخدم الكيان الإسرائيلي من عدة جوانب، لا تتعلّق بالملف النووي الإيراني فقط، نذكر منها: سياسة الضغوط القصوى التي وضعت الولايات المتحدة وإيران على مسار المواجهة الفعلي الذي كان من الممكن أن تتدحرج به الأمور إلى حرب مفتوحة، وخصوصاً بعد اغتيال الفريق قاسم سليماني والبروفيسور محسن زاده، الأمر الذي يخدم التوجهات الإستراتيجية لكيان الاحتلال في توريط الأميركيين بمواجهة عسكرية لخدمة أهدافه.

لا يقتصر تأثير سياسة الضغوط القصوى الأميركية على المشروع النووي الإيراني، بل يتعداه إلى التأثير في قوة إيران العسكرية التقليدية، سواء في ملف تطوير مشروع صواريخها الباليستية أو في اتساع محور المقاومة وتناميه عسكرياً وجغرافياً والدعم المتبادل في العتاد والخبرات، وهما القضيتان اللتان لم يشملهما الاتفاق النووي مع إيران، وتعتبرهما القيادات العسكرية والأمنية في الكيان الصهيوني الخطر الاستراتيجي الأبرز على أمنه القومي.

بالمقارنة بين التوجهات والأهداف، يكمن حرص إدارة بايدن على إيقاف تعاظم إيران العسكري في المنطقة، واهتمامها ينصبّ على عدم تمكينها من امتلاك السلاح النووي بالدرجة الأولى. وهنا يبرز فارق جوهري في المواقف بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو بالنسبة للكيفية المثلى للتعاطي مع الملف الإيراني، ففي الوقت الذي يحاول بايدن إتمام الملف النووي، ليصبح بعدها الأمر أكثر سهولة لمعالجة الملف العسكري الإيراني، يعتبر نتنياهو أن معالجة الموضوعين رزمة واحدة من خلال الضغوط القصوى على إيران هي الحل الأمثل، دون إغفال استخدام القوة، إذ اعتبرت حكومة الاحتلال الإسرائيلية أن سياسة الضغوط القصوى الأميركية تؤثر على المدى البعيد في استقرار النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية في إيران، أو تزيد من الانشغال على الأقل بقضايا داخلية تحت وطأة الحصار الاقتصادي.

ثانياً: جاء القرار الأميركي بالتنسيق الكامل مع الاتحاد الأوروبي، وهنا ثمّة إشارة واضحة إلى عودة الاعتبار إلى تأثير الموقف الأوروبي في القرارات الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط بشكل عام، الأمر الذي سيمنحه تأثيراً أكبر في قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بعد تهميش دوره على امتداد ولاية ترامب.

ومن الجدير ذكره هنا أن الكثير من المواقف الأوروبية يتعارض مع مواقف وتوجهات الكيان الإسرائيلي في العديد من القضايا المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مثل حلّ الدولتين والاستيطان وحملة المقاطعة “B.D.S”، وحديثاً  ما يسمّى “صفقة القرن” ومحكمة الجنايات الدولية.

ثالثاً: رغم إبلاغ الإدارة الأميركية الكيان الإسرائيلي بنيتها المسبقة إصدار القرار وفق تسريبات إعلامية أميركية، فإن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يخبر نتنياهو بالأمر بشكل شخصي أثناء المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما قبل يوم من القرار الأميركي، بمعنى أن سياسة بايدن تجاه نتنياهو تتّسم بعدم الثقة والبرود في العلاقة، بخلاف نمط التعاون السابق المفتوح بينه وبين ترامب والذي بات من الزمن الغابر، وخصوصاً أن المكالمة الهاتفية جاءت بعد مرور أكثر من شهر على دخول بايدن البيت الأبيض، إلى درجة أن عدم اتصاله به أثار انتباه الإعلام الإسرائيلي في فترة انتخابات رابعة للكنيست، وقد تشكل نهاية مصير سياسي لـ نتنياهو.

انطلاقاً من الموضوعية في التحليل السياسي، وبمقاربة الملف بشكل جديّ ومنطقي، لا بد من التأكيد أن السياسة الأميركية تجاه الملف الإيراني لا يمكنها أبداً أن تتجاهل مصلحة الأمن القومي “الإسرائيلي” أو تقفز فوقه، حتى مع وجود بعض الاختلاف في المقاربات، لأن ذلك ينبع من الحرص الأميركي على أمن الحليف الأبرز لها في المنطقة، ووجود لوبي صهيوني ضاغط ومؤثر بشكل يمكن توقع الكثير منه في تقرير مصير إدارة بايدن، فضلاً عن ذلك فإن شعور إدارة بايدن والحزب الديمقراطي الأميركي بالمسؤولية الإيديولوجية تجاه “إسرائيل” والحركة الصهيونية يجعلهما يبادران إلى اتخاذ بعض القرارات التي تخدم أمن هذا الكيان، ولو لم تحظَ برضا الحكومة الإسرائيلية ولم تكن ضمن مطامع نتنياهو.