مجلة البعث الأسبوعية

ممالك سورية في عمق الأراضي التركية تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد

“البعث الأسبوعية” ــ د. علي صقر

تؤكد الوثائق التاريخية، الأثرية – الكتابية، قيام ممالك سورية آرامية في عمق الأراضي التركية منذ نهايات الألف الثاني وبدايات الألف الأول قبل الميلاد، وهي سورية الهوية واللغة والحضارة.

وقد سعى الأتراك الهندو أوروبيين “الحثيون – الحوريون الميتانيون”، منذ الألف الثاني قبل الميلاد، إلى الامتداد وبسط السيطرة على كامل بلاد الشام والعراق. وتظهر الوثائق الأثرية “المادية – الكتابية” أن هؤلاء كانوا محتلين غزاة مغتصبين ليس للأرض فقط، بل للحضارة الشرقية عموماً، فقد كانت الحروف التي استخدمها هؤلاء في كتاباتهم من وحي الإبداع الكتابي السوري الرافدي “الكتابة المسمارية المقطعية”، وتعد لهجتهم من بقايا لهجات هندو أوروبية غير مكتوبة، ثم استعانوا بحروف المنطقة، وتأثروا بلغتها وخطها “أكادية بلهجتيها الآشورية والبابلية القديمة – الأمورية..”، إلى أن سقطت دولتهم في نهايات الألف الأول قبل الميلاد (1200 ق. م) على يد الغزاة الجدد الذين أطلق عليهم اسم “شعوب البحر- البلست” الذين قدموا من بحر إيجة، واجتاحوا آسيا الصغرى، ودمَّروا الحواضر السورية الفينيقية، ووصلوا حتى حدود مصر.

شهدت سورية والشرق عامة، خلال الألف الأول قبل الميلاد، نهضة حضارية أصيلة على يد شعوب أطلق عليها اسم “الآراميون”، فشاعت لغتهم وحضارتهم لتشمل بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس وصولاً إلى الهند، بينما كانت الانطلاقة من قلب سورية، لتصبح اللغة الآرامية السورية هي اللغة الأم في شتى أرجاء الشرق الأعلى والأدنى حتى في مصر نفسها، وفي عمق الأراضي التركية التي تعرف بـ “آسيا الصغرى”. ويعلم كل المختصين في اللغات الشرقية القديمة والتاريخ القديم والآثار، عرباً وأجانب، أن الخط السوري الفينيقي والآرامي كان بمنزلة الخط الأم لما يعرف اليوم بالخط اللاتيني “الإنكليزي” الذي انتقل من سورية عن طريق اليونان إلى أوروبا وغيرها؛ وقد أقرَّ بذلك المؤرخ اليوناني هيرودوتس، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وبذلك يكون السوريون هم الذين علَّموا أوروبا والغرب فن الكتابة.

فيما يأتي أسوق الدليل التاريخي والأثري، المادي والكتابي، للتواجد البشري والعمراني السوري في عمق الأراضي التركية منذ الألف الأول قبل الميلاد، فقد أسَّس السوريون الآراميون لشكل جديد من الحضارة والمدنية بقيت آثارها العمرانية والكتابية حتى اليوم، وبذلك يكون السوريون قد امتلكوا وعمروا حواضر مدن في أقصى شمال سورية والرافدين، منذ ألف سنة قبل الميلاد، بينما يطالعنا العثماني رجب طيب أردوغان زوراً بأحقيتهم في امتلاك أراضِ في شمال سورية والعراق “الرافدين”، بذريعة تواجدهم الاحتلالي البغيض منذ القرن الثامن عشر بعد الميلاد، ولم نلحظ أحداً من الباحثين الأثريين قد عرض هذه الوثائق في المحافل الدولية، وأعرض فيما يأتي لأهم الممالك الآرامية السورية التي قامت في عمق الأراضي التركية منذ الألف الأول قبل الميلاد.

 

إمارات تيمانا

وهي عبارة عن ثلاث إمارات سورية آرامية أسستها قبيلة تيمانا في السفوح الجنوبية لسلسة جبال طور عابدين في مناطق نصيبين وماردين، منذ القرن العاشر قبل الميلاد، وقد عاصرت الملك الآشوري السوري تجلت فليسر الثاني (966 – 935 ق. م)، ومن أهم ملوكها “نور هدد” الذي حكم نصيبين.

 

بيت زماني

قامت هذه المملكة في مناطق ينابيع دجلة غربي بلاد نائيري، وكانت آمد “حالياً ديار بكر” عاصمتها، وذكرت في نقوش الملك الآشوري توكولتي نينورتا الثاني (890 – 882 ق. م)، ومن أهم ملوكها السوريين “أمي بعل”.

 

مملكة يأدي “شمأل”

وتقع عاصمتها “شمأل” في سهل عميق يحيط به جبل الأمانوس غرباً وجبل كرد داغ شرقاً، ويتصل جنوباً بسهل العمق. ونقبت في الموقع بعثة ألمانية بقيادة فول لوشان خلال الأعوام (1888 – 1902 م)، وعثر على الآثار السورية الآرامية الآتية:

– سور بجدارين وبوابات قصور ومبان في مركز المدينة المرتفع.

– منحوتات حجرية “ملوك وآلهة ويوانات..”.

– نقوش كتابية دوِّن بعضها بالخط الفينيقي السوري والباقي دوّن بالخط الآرامي.

وانتشر الآراميون السوريون في المنطقة منذ نهايات الألف الثاني ق. م، وأسسوا في بدايات الألف الأول مملكة قوية مزدهرة استمرت قرنين من الزمن، ومن أهم ملوكها السوريين الذين ذكروا في النصوص الآرامية: “كيلموَّا” و”حيَّا” و”شئيل” و”بر ركب”؛ وأصبحت مقاطعة آشورية في عهد الملك الآشوري شروكين الثاني في العام 720 ق. م. وبنى الملك أسرحدون (680 – 669 ق. م) فيها قصراً ملكياً وحصناً، ولم تخضع للسيادة الفارسية الميدية عام 612 ق. م، وبقيت مستقلة حتى 539 ق. م عندما احتل الفرس الأخمينيين سورية وآسيا الصغرى.

 

الآثار الكتابية السورية في زنجرلي التركية

كشف في زنجرلي “شمأل القديمة” عن نقوش كتابية سورية مدونة على نصب تذكارية تقدر بأربعة عشر نقشاً، ومن أهمها:

– عشرة نقوش عثر عليها بين عامي 1890 و1891 م، في زنجيرلي، للملك السوري بر ركب بن فنموا الثاني (730 ق. م).

– نقشان للملكين “فنموا الأول بن قرل”، و”برركب بن فنموا الثاني”، عثر عليهما بين العامين 1888 و1890 م.

– نقش قصر كليموا، وعثر عليه عام 1902، ويعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد.

– نقش الملك “بر ركب” الآرامي السوري، وعثر عليه خلال التنقيبات الأثرية الألمانية في زنجيرلي، عام 1891، منقوشاً على لوح من الحجر البركاني الأسود “الديوريت”، بمقاييس 131 سم – 62 سم.

وكان اللوح يشكل جزءاً من القصر الجديد، وقد نحت عليه مشهد تصويري للملك “بر ركب” في حالة الوقوف، يحمل بيده زهرة ويرتدي ثوباً على طراز الثياب الآشورية بلحية مجعدة طويلة، وتظهر على الجهة اليسرى أجزاء من صورة خادم يحمل في إحدى يديه مروحة من الريش، وعلى الجهة اليمنى قرب رأس الملك تبدو رموز إلهية؛ وتفسيرها:

– خوذة ذات قرنين: رمز الإله السوري حدد/ هدد.

– نير عربة: رمز الإله ركب إيل.

– نجمة خماسية ضمن دائرة رمز الإله رشف.

– قرص الشمس المجنح: رمز الإله شمش “إله الشمس”.

– الهلال: رمز إله القمر سين “سيد حران”.

والنقش موجود في متحف اسطنبول، وقد اخترنا بعض السطور قراءة وترجمة:

 

قراءة النقش:

ا ن ه  ب ر ر ك ب

ب ر  ف ن م و  م ل ك ش م

ا ل  ع ب د  ت ج ل ت  ف ل ي س ر  م ر ا

ر ب ع ي  ا ر ق ا  ب ص د ق  ا ب ي  و ب ص

ق ي  ه و ش ب ن ي  م ر ا ي  ر ك ب  ا ل

و م ر ا ي  ت ج ل ت  ف ل ي س ر  ع ل

ك ر س ا  ا ب ي

 

الترجمة:

أنا “بر ركب”، ابن “فنمو” ملك شمأل، “عبد تجلت فليسر” سيد جهات الأرض الأربع، لصدق أبي وصدقي أجلسني سيدي ركب إيل، وسيدي “تجلت فليسر” على عرش أبي.

 

د. علي صقر أستاذ في كلية الآداب – قسم التاريخ في جامعة تشرين، دكتوراه في اللغات الآرامية والآرامية التدمرية.