مجلة البعث الأسبوعية

منذر مصري.. الشاعر والتشكيلي الذي يرى الكره أعمى!!

“البعث الأسبوعية” ــ تمّام علي بركات

من جيل السبعينيات في عمر الشعر السوري الحديث، يمكن اعتبار تجربته الشعرية مدرسة خاصة لجهة فهمه الذاتي للشعر، الفهم المنطلق من تجاربه الشخصية، تلك التي يطّعمها عندما يخطها على هيئة قصيدة، بلغة رشيقة ومفردات ديناميكية بما تقدمه من احتمالات للتأويل، فلا يكون على القارئ إلا المضي معه في نزهة قصيرة، كما لو أنه يشاهد فيلماً سينمائياً، يخرج معه من مرسمه في حي “الأميركان” في مدينة اللاذقية، يطوف معه في تطوافه اليومي بين نواحيها، يقابل الأصدقاء الذين يحبهم، والذين لهم حضورهم الأكيد في شعره، ليس كنوع من الوفاء، بقدر ما هو خيار في الحياة، أن تبقى الأمكنة ويبقى الأصدقاء – شهود الماضي – يشكلون المشهد الأكبر من عوالمه التي يغلفها سحر الحكايات وبذخها الشعري، فيما يتركه الشاعر السوري منذر مصري في تلك القصائد من حيوات مفتوحة على الحياة نفسها، بكل تفاصيلها، حتى تلك التي لا يعبأ بها الناس!!

هكذا ينتقل مصري بقصيدته ليكون حالة خاصة أيضاً في الشعر السوري، بارعاً بتقديم العوالم الهامشية، البسيطة، بالمشاعر المشحونة بعبق التجربة مهما كان نوعها، وبما تتركه هذه التجربة في “جوانياته”، كإنسان أولاً، يختبر بمشاعره الصافية ما يعبره بالحياة، ثم يخرج الفنان الذي في وجدانه، ليحيل تلك التجارب والاختبارات اليومية والتي لا تنتهي عنده كإنسان وكشاعر، إلى حكايات شعرية معجونة بالتفاصيل التي ينسجها النفس الشعري لديه، على منوال السهل الممتنع، قصائد تبدو سهلة عند قراءتها للمرة الأولى، ثم يأتي عمقها وتعقيد بنيتها اللغوية بما ينسجم وأفكارها، وما يريد لها صاحبها أن تتفتق عنه، ولكن ليس بالسهولة التي تجعلها في مهب النسيان، كما حدث مع العديد من التجارب الشعرية لمجايليه من الشعراء، والذين يصفهم صاحب “داكن” بكونهم خرجوا معه من عباءة الماغوط، ويمكن القول بأن أهم ما يميز “منذريوس” أن ثمة شاعراً له أسلوبه الخاص الذي لا يقلد ولا يجارى! وله مريدون كثر يحفظون شعره ربما أكثر منه؛ إنه اليوم في المشهد الشعري السوري “شيخ طريقة” شعرية جديدة. من ديوانه “آمال شاقة”:

“مَن أحرقَ الليل؟ / تآمروا ضِدِّي – وحرَّضوا علَيَّ القارِسَ والهاطِل / لكنَّ مِعطفيَ الخاكي – كَهف وقُفَّازيَ الصوفي – موقِدُ فحم / أنا المكَّار/ الَّذي سوفَ يبحثونَ في جُيوبِه – عن عُودِ ثِقابٍ واحدٍ – فلا يجِدون / والَّذي سوفَ يسألونَهُ ألفَ مرَّة: “مَن أحرقَ اللَيل”؟ / فيُجيب: لا أعرِف”.

الشاعر، والفنان التشكيلي أيضاً، ينسحب لديه اللون ليكون مطلع قصيدة شعرية، وتارة تبدأ قصيدته الشعرية، تلك العملية الإبداعية، لتحيك أصابعه الخطوط والمنحنيات كلوحة فنية صاغها الكلام، وهذه تقنية بارعة من تقنيات بل وأسس شعرية مصري، وشعبيته محلياً وعربياً وعالمياً أيضاً، بعد أن وقع الاختيار على مقطعين من قصيدته “إن كان محتماً عليّ أن أعبد إلهاً” ليطبعا على بطاقات تذكارية ضمن سلسلة “قصائد لأجل عالم واحد”، فلديه من الطرق والأدوات الخاصة بكل فن منهما على حده، ومعاً، ويمكن القول حرفياً: “يرسم بالكلمات ويكتب بالريشة”؛ وهي ليست حالة جديدة على المشهد الشعري أو التشكيلي عموماً، لكنها عند صاحب “آمال شاقة” – أول مجموعة صدرت له مشتركة مع الراحل محمد سيدة، والشاعرة السورية مرام مصري – هي علامة فارقة في نتاجه الشعري والتشكيلي، وإن كان الشعر هو ما عُرف به ودل عليه؛ وقد راح منذ عدة أعوام يزيد نشاطه التشكيلي، لما يوجده فيه من فسح تأملية بلا مقاصد مباشرة أو فجة، وعند سؤاله إن كان يرسم أو يكتب، فسيقول: لا فرق!! من مجموعته: “الكُرهُ أعمى الحبُّ يرى”:

“الوردةُ المُشتعِلة / لو كانَ علَيَّ أن أكونَ أميراً ثُمَّ مَلِكاً – لأعلَنتُ الجمهوريَّة / ولو كانَ علَيَّ أن أكونَ فنَّاناً أو شاعِراً / لَطعَنتُ لَوحاتي بالسِكِّينِ حتَّى الموت / ومزَّقتُ دفترَ قصائدي ورقةً، ورقة / وعَشِقتُ امرأةً واحِدة / يا جَماعة / لو كانَ على المرأةِ أن تُقيمَ مَعرَضاً / لكُلِّ ما لَديها من روائع / لكانَ على حبيبتي أن تتنَزَّهَ عاريةً / وهيَ نائمةٌ على ساقي كالوردةِ المشتعِلة”.

يكتب منذر مصري قصيدة النثر برؤية خاصة، وبحساسية فريدة لا تخشى أن تمحو كل حدّ وهمي بين التصوير والفصاحة، وذلك في حرية وحيوية وترادف في الدقة اللغوية والتشكيل، وهذا ما يجعل تجربته الشعرية تظهر وكأنها كتابة مستمرة، وحوار لا ينفك يوازي جريان الزمن، وهو بهذا لا يظهر بمظهر الراصد أو المسجل، بل بكونه يبتكر حياة خاصة، خالية من مبدأ التحلل والنسيان؛ ففي المشهد الشعري السوري الحديث، ينفرد مصري كشاعر بـما يسمى “أرضنة الشعر”، أي تجريده من الصورة النمطية التي لطالما عرف الأدب – الشعر بشكل خاص – من خلالها، وهو بهذا يقلب المفهوم الرؤيوي للشعر رأساً على عقب، فهو ينتزعه من ملكوته المتعالي، ليغرسه في أرض الشارع. من مجموعته “بشر وتواريخ وأمكنة”:

“تكفيني شجرة / لأسقي زَرعي / لأستحِمَّ ثلاثَ مرَّاتٍ في النَّهار / وأغرَقَ ثلاثَ مرَّاتٍ في النَّهار / تكفيني نُقطةُ ماء / لأفتحَ عينَيَّ طوالَ الوقت / لأشعُرَ بأنِّي على ما يُرام / ولو بدونِ امرأة – تكفيني شجَرة / تكفيني حبَّةُ عِنَب – لأمتلئَ بالرَّغبة – وأسهرَ في الخَمَّارة / وأعودَ سَكراناً إلى البيت / وقد ضيَّعتُ كُلَّ تعبِ الشِتاء”.